قبل أن تبدأ مصر احتفالات «نصر أكتوبر» رقم 37، وبعد ما يقارب أربعة عقود علي هذا الإنجاز العظيم لأمة عظيمة ودولة قوية وجيش أخلاقي وجبار، أمة إذا هُزمت لا تموت ودولة إذا تعثرت لا تقع وجيش إذا قاتل كان قتاله من أجل الحق والشرعية، قبل تلك الاحتفالات.. كان أن ظهر في لغة الخطاب المصري - علي لسان الرئيس- معني يعيد الصراع «العربي- الإسرائيلي» إلي مدي زمني يصل إلي مائة عام.. بعد أن كان الكثيرون- وبما في ذلك مصر- يعيدونه فقط إلي ستين عاما.. أي عند المحطة الزمنية للتفجر الكثيف للصراع في 1948. ولا أظنها صدفة أبدا، فالصراع مع المطامع الصهيونية بدأ وثائقيا في 1917، حين صدر وعد بلفور، الذي منح به من لا يملك «الاستعمار البريطاني» واقعا تجسد عليه طمع التوسع لمن لا يستحق، غير أن تلك المحطة لم تكن هي في حقيقة الأمر نقطة انطلاق الصراع.. إذ بدأت أمواجه الأولي للدقة في ثمانينيات القرن التاسع عشر.. ما يعني أننا عمليا نتكلم عن احتدام فرض علي مصر أن تخوضه منذ ما يزيد علي 118 عامًا. في سنة 1892، كان أن قدم إلي مصر مغامر ألماني يهودي، مدعوما بإيماءات بريطانية، لكي يبني مستوطنة صهيونية في منطقة «مدين» تلك التي تقع بين شمال الجزيرة العربية وجنوب نهر الأردن.. أي كان تخطيطه بعيدًا عمليا عن مصر.. لكنه واقعيا اتجه إلي جنوب مدينة الطور، حيث حل بمخيمه مع خمسين مغامرًا يهوديا أوروبيا.. كما ذكرت من قبل.. وهناك بنيت المستوطنة التي لم تستمر كثيرًا.. ولكنها أثبتت منذ وقت بعيد العلاقة بين مصر والقضية الفلسطينية. فيما بعد كان أن تضخمت المؤسسة الصهيونية دوليا، وعقدت مؤتمراتها وسوَّقت أحلامها في أن تكون لها دولة في حدود هذه المنطقة العربية.. قبل حتي أن تترسخ صفاتها العربية.. وبغض النظر عن أنه قد عرضت أماكن كثيرة لتأسيس الدولة الإسرائيلية مثل أوغندا والأرجنتين وقبرص ومنطقة في غرب ليبيا، فإن استهداف مصر بهذا المخطط كان هو المرمي الأصيل في الفكر الصهيوني.. وفي ذلك برز مشروع الدولة في العريش.. ثم مشروع الدولة في سيناء كلها.. فيما كان يصر الصهيونيون علي أن يسموه بفلسطين المصرية. إن الجميع يعرف أن بعثة كبيرة من الخبراء اليهود جاءت إلي مصر ومسحت سيناء في بداية القرن الماضي وكتبت تقريرا وطلبت من بريطانيا أن تدعم حلم تأسيس دولة اليهود علي أرض سيناء بتوفير قدر من مياه النيل لها، لكن هذا المخطط فشل في 1906 .. وياللمفارقة، فقد كان الذي تصدي له سرا هو اللورد كرومر المحبذ الرئيسي للأحلام اليهودية في مصر.. لأسباب تتعلق بوضعيته وسيطرته علي الدولة التي تحتلها بريطانيا.. والأهم أن من وقف في وجه ذلك المشروع علنًا هو رئيس وزراء مصر الراحل ووزير خارجيتها لفترة طويلة من الوقت بطرس غالي الجد.. الذي كان من مفارقات القدر أن اغتيل في 1910 علي باب وزارة الخارجية علي يد شاب مصري اسمه إبراهيم الهلباوي. ملامح عديدة تقودنا إليها عملية مد المدي الزمني للصراع إلي مائة عام أو يزيد: • أولاً: إن مصر كانت منذ اللحظة الأولي في صدارة الصراع، مرتبطة به استراتيجيا، ولو لم يكن هذا مستقرًا في الوعي العام بشكل واضح، أن مصر تواجه الآن المستوطنات.. لأسباب كثيرة من بينها أنها البلد الأول الذي حاول أن يبني فيه الصهيونون مستوطنتهم الأولي كما أنها تدرك خطورة المشروع الصهيوني لأسباب مختلفة.. أهمها أنها كانت في مقدمة مقاصده من البدايات.. ولو لم يزل حلم سيناء يراود الكثير من التوسعيين الإسرائيليين.. سيناء هذه التي احتلوها عنوة.. واستعدناها بقوة.. وعمرناها بإصرار.. ونحميها بثبات. • ثانيا: إن سيناء هي أهم نطاق في استراتيجية علاقة مصر بقضية فلسطين، بداية من كونها بوابة مصر الشرقية، وأنها مطمع صهيوني أصيل، وأنها لم تخرج من الفكر التوسعي الإسرائيلي، ودائمًا وحتي الآن هي قيد التضمين في سيناريوهات متنوعة، وإن- وهذا هو الأهم- سيناء كانت هي الجوهرة التي استعدناها في ذكري الحرب المجيدة التي نحتفل بها اليوم. • ثالثًا: إن الرجل الذي تصدي للتوسع الصهيوني الأول في بداية القرن العشرين كان مصريا قبطيا.. سوف يذكر له هذا في التاريخ دائمًا.. وهو ما لا بد أن نتذكره الآن.. ونحن نواجه العدو الكامن فيما بين ظهرانينا.. ولم نعلن عليه الحرب بعد.. عدو اسمه الفتنة.. وعنوانه الطائفية.. وهدفه ليس احتلال البلد.. وإنما ألا يكون هناك من الأصل أي بلد.. أن تدمره نيران الأحقاد.. وأن تقضي عليه النعرات.. وأن تفجره التحزبات. لقد تغيرت مصر في غضون المائة عام الماضية أكثر من مرة، وبقيت قضية فلسطين حالة كما هي في أجندة الوطن، وفي السنوات ال 37 التي انقضت بعد الحرب المجيدة.. كان أن تغيرت مصر مرارًا.. وكان أن تغير محيطها.. وتبدل ما حولها.. صنعت هي كثيرًا من هذا التغيير في الإقليم بنتائج تلك الحرب.. وفرضت متغيرات أخري أدت إلي تحولات جوهرية في النطاق المحيط بنا. عشية حرب 1973 كان التهديد الاستراتيجي الأساسي هو احتلال الأرض ونتائجه، وبعد التحرير الجزئي في 1973 ومن ثم التحرير الكامل في بداية الثمانينيات بعد توقيع اتفاق السلام المستند إلي ثمار الحرب، فإن التهديد الاستراتيجي للدولة توسع وتطور.. وتعددت جبهاته.. كل بقدره.. وكل في اتجاهه.. بل يمكن القول إن المخاطر التي تواجه مصر الآن لا يمكن أن تقارن في مضاعفتها بما كانت عليه الأمور في ما بعد 1973. القراءة المتعمقة لإجابات الرئيس في حواره مع جريدة القوات المسلحة الذي نشرته مختلف الصحف يوم أمس، تشير إلي عناوين هذا المحيط الذي تغير.. إقليميا.. سواء تصاعد دور قوي إقليمية مختلفة.. مثل تركيا وإيران.. وسواء احتضان إيران قوي التطرف الإقليمي.. وسواء التهديد الذي يلحق بمستقبل السودان.. أو الموقف في الصومال.. أو تحديات أمن الخليج وأمن المنطقة بتعريفها المعقد الذي ورد في حوار الرئيس امتدادا إلي الأمن الأورومتوسطي والأوروأطلنطي.. والموقف في العراق ولبنان.. كل هذا لم يكن موجودا في عام 1973 . لقد واجهنا تحديا تاريخيا قبل 37 عامًا.. خضناه وعبرناه.. لكن التحديات التي نواجهها الآن أكثر تعقيدًا.. حتي لو لم يكن الأعداء ظاهرين.. وحتي لو كان بعض الأصدقاء خصومًا مؤقتين.. وحتي لو اضطررنا لقبول حقيقة أن بعض الأشقاء يمكن أن يمثلوا تهديدا أو تحديا للمصالح المصرية.. ولو فترة وجيزة.. في حين أن الأشقاء كانوا خير عون وخير حليف في عام 1973. هل هذه التهديدات وتلك التحديات تفرض علينا أن نخوض حربا جديدة؟ بالتأكيد لا، فالتحديات صارت لها مواصفات أخري، والتهديدات أصبحت أكثر تعقيدًا وهي لا توجد علي جبهات مباشرة.. وهي قد تكون في مخاطرها أبعد من تأثير احتلال مباشر.. غير أن الحرب التي علينا أن نخوضها فعلاً.. وأن نصر علي الانتصار فيها.. وتحقيق الأساطير الواجبة خلالها.. هي تلك التي يمكن أن تضرب جبهتنا الوطنية.. وتفتت وحدتنا الداخلية.. الحرب ضد الطائفية.. التي يجب أن يخوضها جيش قوامه المجتمع كله.. حيث عليه أن يمد الجسور إلي الوئام والانسجام المجتمعي.. وحيث عليه أن يعبر موانع الجهل.. وحيث عليه أن يطور الهجوم بعد تحقيق انتصاره الأول.. تطوير لا يتوقف.. فالتوقف يعني أن تتحقق هزيمة تاريخية للبلد.. وهذا الوطن لا يمكن أن يستسلم أبدا لخطر من هذا النوع.. ويمكنه أن ينتصر عليه بقليل من الجهد ودون ترتيبات مفاجئة مثل تلك التي لجأنا إليها في 1973 . كل عام وأنتم بخير