شهد الأسبوع الأخير من سبتمبر جهوداً محمومة وتحركات دبلوماسية لم تقتصر فقط علي المبعوث الأمريكي للسلام السيناتور جورج ميتشل وإنما كذلك مفوضية الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية كاترين أشيتون، ليس من أجل التوفيق بين مواقف السلطة الفلسطينية وإسرائيل حول ملفات التفاوض، ولكن من اجل الإبقاء علي العملية التفاوضية ذاتها، وحول هذه الحالة التي وصل إليها ملف التسوية يمكن صياغة العديد من الملاحظات أبرزها ما يلي: بالرغم من عدم توافر الظروف المواتية للبدء في عملية تفاوضية حقيقية تهدف إلي تحقيق السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، دفعت واشنطن، لأسباب تبتعد تماما عن التحليل الدقيق للمعطيات علي أرض الواقع، بقوة في اتجاه إطلاق المفاوضات المباشرة في مطلع سبتمبر الماضي، بل وقدمت فترة عام علي أنها كافية للتوصل إلي تسوية حول جميع قضايا الوضع النهائي، وقد جاء التحرك الأمريكي متناقضا مع التحليلات العديدة التي حذرت من اصطدام التحرك الجديد بعد ثلاثة أسابيع فقط بعقبة استئناف العمل النشط بالمستوطنات، الأمر الذي أكده المستوطنون في الوقت الذي انعقدت فيه قمة واشنطن لتدشين إطلاق مفاوضات مباشرة حول قضايا الوضع النهائي، ولعل هذه الملاحظة تبرر توصيف الموقف الحالي بالمأزق المتوقع. أكد المأزق الحالي بشكل صارخ حقيقة أن عملية الاستيطان التي كانت الأداة الرئيسية في تأسيس دولة إسرائيل، قد نجحت في تحقيق أهدافها الاستراتيجية لتصبح عقبة عملية أمام ترجمة مقترح "السلام مقابل الأرض" الذي ارتكزت عليه جهود تحقيق السلام بين طرفي الصراع. فمع مرور الوقت أصبح المستوطنون قوة لا ُيستهان بها علي المسرح السياسي الإسرائيلي قادرة علي التأثير سلباً علي أي توجهات قد تبرز داخل القيادة السياسية لتحقيق السلام العادل والدائم. وقد أكدت التفاعلات السياسة الإسرائيلية في الفترة الأخيرة صحة ذلك، إلي الحد الذي دفع بعض المحللين إلي القول إن المستوطنين يسيطرون علي الحكومة سواء من خلال التواجد الفعلي من خلال ممثلين لهم في أروقتها، أو عبر مساندة الوزراء لأنشطتهم. كشفت التطورات الأخيرة مجدداً عن أن قدرة الولاياتالمتحدة علي التأثير علي القرار الإسرائيلي وتوجيهه ليست علي القدر الذي قد يصوره البعض، وأن العلاقة الخاصة بين البلدين تخرج عن نطاق شعار "التغيير" الذي رفعه باراك أوباما المرشح والرئيس، ليس لعدم رغبته في ذلك وإنما لعدم قدرته الفعلية علي الدخول في صدام مباشر مع دولة صديقة لها امتداداتها العضوية المؤثرة علي المسرح السياسي الأمريكي الداخلي. يضاف إلي ذلك ما رددته الصحافة الإسرائيلية عن "ضمانات سخية" عرضتها الإدارة الأمريكية علي إسرائيل ليس للوصول إلي تسوية نهائية، ولكن فقط لتجميد النشاط الاستيطاني لفترة ستين يوماً، وهو ما لم يلق تجاوباً- في الوقت الحالي - من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي لاعتبارات تتصل بالتوازنات السياسية الداخلية الإسرائيلية، والرغبة في استخدام ملف الاستيطان إلي أقصي مدي لحسم المفاوضات علي ملف الحدود بما يتماشي مع الحدود التي رسمتها الكتل الاستيطانية والجدار العازل علي أرض الواقع. إن الموقف الفلسطيني، ومن ورائه العربي، يبدو وكأنه لا يتناغم مع مفهوم المفاوضات بالمعني الذي أعلنت إسرائيل منذ نشأتها عن تفضيلها له ورفضها لأي بديل عنه، فالاستناد إلي مبادئ الشرعية الدولية والحقوق التاريخية والحجج القانونية قد يكون السلاح الوحيد في ساحات القضاء الدولي، أما فيما يتصل بالمفاوضات فإنها تركز علي الوصول إلي حلول وسط تتماشي قدر الإمكان مع مصالح الأطراف المنخرطة فيها، بشكل يهدف إلي التركيز علي المستقبل أكثر من العودة إلي الماضي، إلا أن الموقف الفلسطيني قد استند علي مبادرة السلام العربية التي تمثل ترجمة واقعية لمنطق الحقوق الثابتة، وتقدم السلام والتطبيع كثمن لذلك. وفي ضوء ما تقدم تبدو الخطوة العربية المقبلة علي درجة عالية من الأهمية ولا تحتمل الغموض، حيث إنها تتصل بتحديد مسار المستقبل في ضوء تلاشي تأثير الظاهرة "الأوبامية"، وتعاظم دور المستوطنين في إدارة دفة الحكم في إسرائيل، وما قد يسفر عنه المأزق الحالي من تعزيز مواقف الأطراف المعارضة بل الرافضة لأسلوب التفاوض وقواعده الراهنة.