تعودنا بعد متغيرات هذا الزمن الذي نعيش فيه الآن، أي زمن القطاع الخاص ونشاطاته الاقتصادية والاستهلاكية التي شملت كل الأنشطة تقريباً، خاصة في مجال الأنشطة السريعة العائد مثل مطاعم الوجبات الجاهزة، التي أصبحت أساسية في حياة أولادنا الذين شبوا في ظل نمط الحياة «الجديد» فأصبحوا ضمن أتباعه المخلصين. تجد الولد أو البنت يطلب ببساطة وجباته المفضلة من هذا الصنف أو ذاك، أسماء لا يعرفها الآباء والأمهات تقدمها سلاسل من المطاعم العالمية التي استوطنت مصر بفروعها الكثيرة أو مطاعم محلية منافسة تقدم نفس الاصناف، وأخري قررت التميز بتقديم وجبات عجيبة المسميات مثل وجبة تدعي «الفشنكاح» أو أخري اسمها «الحبشتكانات». وبالطبع يأتي الطلب بسرعة البرق علي موتوسكيل الشاب حامل لقب الدليفري، ولا تسأل عن الحساب، ولكن كل شيء معروف مقدما ومكتوب سلفاً في أوراق الدعاية الملونة التي تصلك مع كل الفواتير، أو يلقون بها إليك في أي مكان.. وقد تستجيب لها كثيراً، خاصة إذا كنت امرأة عاملة من الطبقة المتوسطة الكادحة التي كثيراً ما تتأخر عن اعداد طعام الأسرة بسبب المواصلات أو غيرها من الأمور فإذابها - أمام سهولة العرض والطلب وسرعة وصول الطعام مع طياري ديليفري - تستجيب مضحية بفرق التكلفة الذي يتجاوز الضعف فيما لو صنعته بنفسها، لأن الوقت يداهمنا.. والبطون تصرخ.. والبديل جاهز. لكن.. الجديد هنا هو التليفون الديليفري.. يعني تطلب رقما فيردون عليك مثل أي مطعم شيك، وبدل أن تطلب الطعام تطلب خط تليفون أرضي يتم تركيبه لك، وتوصيل الحرارة إليه مع «عدة» تليفون جديدة في نفس اليوم نظير تكلفة التركيب فقط، وهذا قرأته عبر اعلان محترم منشور في جريدة قومية كبري موثوق بها.. يعني لا نزول ولا ذهاب للسنترال في الحر والزحام، ولا وقوف في طابور حتي يتم التعاقد ثم انتظار أيام أخري حتي يحنوا عليك ويتم تركيب الخط الجديد. فالإعلان يقول إن موظفا واحدا فقط هو من يقوم بكل هذه الخطوات حين يحضر إليك، تركيباً وتعاقداً ثم دفع المطلوب في مقابل حصولك علي إيصال مختوم رسمياً بتكلفة هذا.. سعدت وأدركت أن الدنيا اتغيرت فعلاً، والمنافسة فعلت فعلها بين المحمول والأرضي الذي عشنا عمرنا كله نقتات عليه وكم من مصريين انتظروا سنوات طويلة حتي يأتي عليهم الدور في تركيب تليفون.. ووصل الأمر أحياناً بالهيئة القومية للاتصالات أن تحولت لديكتاتور يتحكم في أحوال الناس المحتاجة لتليفون، ناهينا عن شغل المحسوبية والواسطة، انتهي ذلك كله، وأصبح تركيب تليفون مثل شكة دبوس، ومشوار ديليفري. طلبت الرقم، وفي نفس اليوم وصل فني تركيب قام بتوصيل الخط وتركني أجربه علي عدة تخصه، وجدته علي أفضل حال مسألته: طيب أين عدة التليفون نفسها.. فأجابني لا.. إنها مهمة زميل لي من قسم الحسابات هو من سيتعاقد معك ويمنحك ايصال السداد. وبالفعل وصل السيد الموظف الآخر لينسحب الأول، الذي بدأ رحلة أخري للتعاقد، وأولها مفاجأتي أن رسوم الديليفري هي 250 جنيها ورسوم التركيب مثلها! ثم ضريبة مبيعات واشتراك ورسوم خواص أوصلت المبلغ إلي رقم 725 جنيهاً مما أصابني بالذهول.. فكيف تكون رسوم الديليفري 250 جنيهاً إنه أكبر ديليفري في مصر إذن.. بل في أي مكان في العالم لأنه يساوي التركيب بما فيه الجهاز الجديد «العدة». تخيلت وقتها أننا ندفع خمسة جنيهات أو ربما أقل لديليفري الطعام، يعني لو حسبناها «حسب قيمة التليفون» ممكن أن تصبح خمسين جنيها، قلت هذا للموظف فكان الرد أن هذا هو ما قررته الشركة ويمكنني السؤال عن تفاصيل المبلغ الذي كتبه في الإيصال اجماليا علي عكس ما كانت تفعله الشركة حين قامت هيئة حكومية بتفقيطه حتي يدرك المشترك حيثيات وتفاصيل تعامله. قال الموظف إنه لا يملك تفسيراً للرد علي أسئلتي وأمامي أمر أو اثنان إما الغاء التعاقد أو الإذعان.. فأذعنت باعتبارها فرصة لي كصحفية وكمواطنة لفهم هذه اللعبة التي تقوم بها الشركة المخصخصة بعد أن تحررت من لوائح وقيود القطاع العام. وبالفعل حدث اتصال مع مدير الحسابات الذي ابدي اعتذاره عن عدم ذكر بنود مبلغ التعاقد، أما ثمن الديليفري فقد اتضح أنه ثمن عدة التليفون التي تعلن الشركة أنها تقدمها هدية للعميل، وأنهم يكذبون علينا بمسألة الديليفري هذه حتي لا يقولوا إنهم يتقاضون ثمنها حيث أشار عليهم خبراء التسويق الجدد في الشركة بهذا حتي يتلهف الناس علي هذا التركيب السريع درءا لمتاعب الزحام والطوابير. بعد ذلك أتضح لي من استعمال العدة «الهدية» أن الشركة باعت لنا التروماي، فهي منتجة في مصنع مصري، وهذا ليس عيباً، لكن العيب ألا تكون في مستوي التليفونات الصينية! عدة صوتها ضعيف كأنها لعبة أطفال ومع ذلك يبيعونها بهذا الرقم الكبير، وكأنهم يعوضون المصنع الذي ينتجها عن سوء مستواه «الذي قيل إنه توقف عن الإنتاج مؤخرا بسبب سوء معاملة العاملين به من قبل الإدارة وحيث أضرب هؤلاء عن العمل أكثر من مرة». لدي الكثير مما يمكن أن يقال في هذه التجربة مع الخدمات السريعة للمواطن التي من الواضح أنها تنجح في المؤسسات الخاصة الأصلية وتفشل حين يتم فرضها دون اعداد أو تمهيد علي مؤسسات كانت عامة.. لكن يكفي هنا أن أقول إن الحلو دائما مايكملش.