في روايته الأولي " الجبانات" يتحدث رشيد غمري عن واحدة من أغرب القضايا الاجتماعية، التي أصبحت في طريق تحولها للظاهرة الاجتماعية، وهي انتحار الشباب، الذي ربما يكون انتحارا نفسيا، يهدي رشيد روايته إلي الأرواح الصامدة علي طيبتها رغم قسوة العالم، وعن رؤيته للعالم وأسلوب التعامل معه كان لنا معه هذا الحوار: لفت نظرنا في "الجبانات" أول عمل روائي لك، كثرة وتشابك خطوط السرد وامتلائها بالأسئلة الوجودية، ما تعليقك؟ - فعلا الرواية بها أصوات عديدة، ولها علاقة بتراثنا العربي، وأخذت منه الحكايات الفرعية الكثيرة، مما يجعلها في أحيان كثيرة تبدو وكأنها كتبت كعمل حر به شيء من الارتجالية، لكنها في الحقيقة عمل ذو معمار محدد. لكن البطل هو "الجبانات" مكان دفن الموتي، وهي إسقاط علي وطن يعيش فيه الأحياء كأنهم أموات وينتحر فيه الشباب، كذلك مسرحية "المحورجي" بالرواية وهي عبارة عن تنويعة علي المأزق والتساؤلات الوجودية الأساسية المطروحة ضمن الرواية، بعض النقاد يري أنها وضعت بشكل غير تقليدي والبعض الآخر العكس، رغم ذلك فإن الأحداث بالفكر الصوفي والإنساني الباحث عن الحقيقة والحب والدين ومفهومه الراقي والعميق، بعيدا عن الخلافات والتعصب والدموية، معبرا عن روح هذه المرحلة الانتقالية التي نعيش فيها مرحلة الصراع من أجل أن نصبح في حالة سياسية أفضل. أري دائما أن الصورة التشكيلية مسيطرة وهناك حضور للفنان التشكيلي في داخلك، أليس كذلك؟ - طبعا، فلا شك أن التشكيل أساسي في تكويني، حتي إنه يقال إنني أرسم المشاهد ولدي رؤية بصرية، في هذا العمل تحديدا لأن بطله فنان تشكيلي، فيظهر هذه الرؤية أكثر، لأنه طوال الوقت يتعامل مع تماثيل أنثوية، فيعكس رؤيته للعالم والمرأة والجسد. لماذا اخترت الرواية وليس قصيدة النثر مثلا التي تناسب عصر السرعة الذي نعيشه؟ - أنا أتصور أن المهم هو التواصل، وقصيدة النثر رغم سرعتها، أخفقت في الاتصال بالجماهير، في حين أصبحت الرواية متصلة أكثر بالواقع، وفي رواية "الجبانات" اخترت ظاهرة الانتحار، التي تحدث علي أرض الواقع بين الشباب، ونقرأ عنها في الصحف يوميا، لكن الصحافة تعرض الحادث ولا تعرض تحليلا نفسيا أو اجتماعيا للظاهرة، وهو ما قامت به الرواية، وحالة الهذيان التي يعيشها العالم الشرقي الذي تسعي جهات مخربة لإعادة العرب إلي الردة والبداوة باسم الدين، سواء الإسلامي أو المسيحي، اعتمادا علي أفكار غيبية لا تتوافق مع كم التقدم التكنولوجي والعلمي الذي وصل إليه المجتمع الغربي، ففن الرواية هو الفن الأكبر في إلقاء الضوء علي حالة الردة، وغياب العالم عن إنجازاته وحالة المأزق الإنساني. ما رأيك في الصراع بين طبيعة الفنان المتحررة وثقافته وموروثاته، وكيف يمكنه من خلال الفن التحول إلي حياة افتراضية للهروب من الصدام؟ - نحن نعيش في مجتمعات خانقة ومخنوقة، تصر علي إعادة إنتاج الكآبة والتعاسة، ولا تتعلم من تجاربها، وسبب ضمور هذه المجتمعات وتراجعها أنها نتاج أفكار متجمدة لا تتعاون أو تستفيد من عصر الانفتاح الثقافي، كانت هناك مؤشرات قوية ببدايات القرن ال20 بالانفتاح علي فنون العالم، فصنعنا سينما مواكبة للسينما الأوروبية قبل 100 عام، وأنشأنا مدرسة للفنون الجميلة قبل 100 عام، لكن هناك قوة دينية سمح لها أن تتواجد في هذا المجتمع، تتميز بالرجعية، تعترض لوجود بؤرة تنوير، فزرعت في مصر مبكرا جماعات متخلفة، لكي تشد المجتمع للخلف، والسبب في الازدواجية التي يعيشها الفنان أصلا هي أن المجتمع مستهدف من جراثيم تنخر منذ 100 عام، وحققت نجاحات كبيرة، فهم بلاد غير متحضرة ولم تسهم في الحضارة الإسلامية بشيء، الأدهي والأصعب هو أن المؤسسات الرسمية تتجاهل عملية سرقة الهوية المصرية . إذن أنت ضد السلطة الدينية ولست ضد الدين نفسه؟ - الدين لا يجوز أن نقول نحن معه أو ضده، فهو موضوع شخصي ولا يعرف أحد علاقتك بربك غيرك، فلا يوجد شيء اسمه مجتمع إسلامي أو دولة إسلامية، لأن هذا يعني أنني سوف أدخل الجنة بالباسبور، وأي محاولة لإخراج الدين عن هذا الإطار، هي محاولة دنسة للتجارة والتربح من خلال سلطة، وهو شيء غير إنساني، فرغم كل هذا الهوس بالتدين المزعوم، أصبحت الشوارع بلا أخلاق، فنجد موظفون تزينت جباههم بعلامة الصلاة ويأخذون رشوة، ولم يشهد المجتمع هذا الفساد، قبل ظهور دعوات التدين الظاهري. عندما قررت نشر روايتك ما المشاكل التي قابلتك؟ - طبعا هناك أزمة كبيرة للنشر في مصر بلا شك، فإذا كان كبار المبدعين يتعرضون للنصب والابتزاز فما بالك بشباب ينشرون أعمالهم لأول مرة! لكنني كنت محظوظا لأني وجدت دار نشر جديدة أصحابها من المثقفين وهي دار "كيان" وتجربتي غريبة، فلقد قابلت الأستاذة سمية عامر واستأذنتها في قراءة الرواية أولا ثم تقريرها للنشر أم لا، وفوجئت بهم يتصلون بي ويقولون إنهم سيطبعون الرواية دون أي اتفاق علي شيء كما هو السائد إنما بترحيب وجهد كبير، وحتي سمحوا لي أن أتخيل كيف يكون شكل هذا الكتاب، فطبع بحالة جيدة مرضية لي ولهم. ما الجديد الذي تجهزه حاليا؟ - أكتب رواية جديدة تتخطي كل الحواجز، خصوصا في حالة التدليس الديني التي عشناها كل السنين الماضية، والتي تضرب بدون هوادة، وأتمني ألا تكون عملي الأخير!