النوع الأول يمثله تراث الموسيقي الكلاسيكية الرومانسية الذي خلفه تشايكوفسكي وريمسكي كورساكوف وموسورسكي وغيرهم من عظماء المؤلفين الموسيقيين في القرن التاسع عشر، والثاني يمثله سترافنسكي الروسي المارق الذي أثر علي تاريخ الموسيقي في القرن العشرين بألحانه الملغزة وكسره لكل توقعات الاستمرار والبذخ التي صاحبت فترة العصر الجميل في أوروبا وانتهت بقيام الحرب العالمية الأولي. شاهدت فيلمين يتناولان هذين النوعين من الموسيقي الروسية في الأسبوعين الماضيين، الأول شاهدته في مدينة صغيرة شمال مونتريال وصل إليها الفيلم لذيوع شهرته كفيلم يمزج الكوميديا بالدراما ويقدم للجمهور موسيقي تشايكوفسكي الشعبية باعتبارها روح الهارموني المطلقة، وشاهدت الفيلم الثاني في أوتاوا في قاعة عرض فريدة اسمها مايفير يرجع تاريخ انشائها إلي عام 1932 وتقدم الأفلام القديمة والأفلام الحديثة الأوروبية والآسيوية التي لا تستطيع منافسة الفيلم الأمريكي في القاعات العامة. تذكرني المايفير مع اختلاف الديكور والتاريخ بسينما كريم في الثمانينيات والتسعينيات في القاهرة من حيث نوع الجمهور ونوعية الأفلام المختارة، لكنها في كندا تعتبر من أقدم وأعرق قاعات العرض الصغيرة التي تسمي "نيبرهود سينما" أو سينما الحي. فيلم المخرج الروماني رادو ميخاليانو "الكونسير" أو الحفل الموسيقي، فيلم فرنسي بلجيكي يمجد الموسيقي الرومانسية باعتبارها ممثلة للروح الروسية الأصيلة ويذكر المتفرج تحديدا برائعة تشايكوفسكي الخالدة كونشيرتو الكمان من مقام ريه كبير (الذي عزف لأول مرة عام 1881). أما فيلم "كوكو شانيل وإيجور سترافنسكي" إخراج الفرنسي جان كونين فيصور علاقة الحب الملتهبة بين مصممة الأزياء الفرنسية المعروفة والملحن الروسي الشهير بعد لجوئه إلي فرنسا في بدايات الثورة البلشفية ويركز علي واحد من أهم أعمال سترافنسكي، باليه "قدس أو تتويج الربيع" (1913). في الفيلمين، الموسيقي كائن قائم بذاته، يتواري خلفها العازفون والمستمعون، وتساعدها الصورة علي النمو والسيطرة الكاملة علي مشاعر المتفرج. أجمل اللقطات القريبة تدخلنا إلي قدس أقداس الفن عبر الوجه، وجه قائد الأوركسترا، وجه عازفة الكمان، وجه سترافنسكي ووجه زوجته وهي تنصت إلي موسيقاه وكوكو شانيل وهي تنجذب إلي عنفوان ألحانه الغريبة، الوجه أو الرأس الصامت حليف الموسيقي الكلاسيكية، كأن صاحب هذا الوجه قد مسه همس الجنون بات يسمع أصواتا لا يسمعها غيره، لا يفهم لغتها غيره، لا يدرك سطوتها وجبروتها غيره، في الغابة وحيدا أو في غرفة مظلمة يجلس فيها وعيناه مفتوحتان علي الأرق، وعلي كل تلك الأصوات. اللقطة القريبة حليفة الموسيقي الكلاسيكية، تعبر بنا إلي شفافية تلك الروح المنتصرة الحانية التي تعبر عنها جملتان لحنيتان أساسيتان في الحركة الأولي من كونشيرتو الكمان، نقترب من وجه قائد الأوركسترا وهو ينصت للحن تشايكوفسكي كأنه ينصت لأصوات الملائكة أو كأنه يري ما لم تره عين من قبل (ممثل روسي رائع قام بالدور ونسيت اسمه لكني لم أنس عينيه الغائرتين وشعرة الجنون المطلة من ابتسامته)... ونقترب من وجه عازفة الكمان الشابة التي تعيد اكتشاف تشايكوفسكي وفي نفس الوقت تعيد اكتشاف تاريخها الشخصي عندما تلتحم الجملتان اللحنيتان في نهاية الحركة الأولي، لقد ورثت عن أمها مهارة العزف وروح الفن المطلقة دون أن تعرفها أو تراها، فقد ماتت الأم بعد أن أصابتها لوثة عقلية في معتقل من معتقلات الاتحاد السوفيتي وعاد قائد الأوركسترا يبحث عن الابنة معولا الأمل أن تعيد للكونشيرتو رونقه كما فعلت أمها من قبل، العازفة وقائد الأوركسترا، الابنة وصورة الأم المتوفاة، جملتان في لحن واحد، جملة منتصرة تفتح سماء النفس علي عظمة الطبيعة الروسية ورحابة هضابها وربوعها، وجملة آسية تعيد للأذهان عذوبة الفن الروسي وميلو درامية الموسيقي في عصور الرومانسية الكبيرة. وتنهمر الدموع كما هو متوقع تماما في الفيلم الأول، كونشيرتو الكمان لتشايكوفسكي علي صعوبته وتعقيد بنائه يؤدي هذا الدور بجدارة. والفيلم يخصص الدقائق العشر الأخيرة ويزيد ليسمعنا الحركة الأولي كاملة بعد أن استمعنا لشذرات منها أثناء الفيلم، لحظة انتصار هائلة يخرج المتفرج مشحونا بها، وتظل الجملتان تلحان علي سمعه الباطني بعد الفيلم لعدة أيام. موسيقي سترافنسكي هي النقيض التام لهذا النوع من الرومانسية الذي يتمتع اليوم بشعبية لا بأس بها في أوروبا. موسيقي باليه "قدس الربيع" لسترافنسكي مبنية علي مقاطع منفصلة يتم توليفها مثل فيلم سينمائي، موسيقي مجتزأة، مفككة عن عمد، حادة الإيقاع وسريعة التغيير، تربأ بنفسها عن العواطف السيالة، تعيد للرمز غموضه الانثروبولوجي، وتستخدم عنصر المفاجأة مستلهمة الطبيعة والتاريخ معا لإثارة مشاعر الخوف والترقب والتغيير العنيف الحاد. الجزء الأخير من الفيلم يقدم التابلوه الأول في باليه "قدس الربيع" للمرة الثانية، بعد أن استقبله الجمهور الفرنسي عام 1913 بالاستهجان والرفض، أعاد سترافنسكي الكرة بعد انتهاء الحرب وقوبل الباليه بالحفاوة التي تليق به. الفيلم يقدم تصميم الباليه المعروف لنجسنكي في بداية الفيلم ويركز بصورة أقل علي الموسيقي، ثم يعود ليركز علي الموسيقي نفسها في النهاية متقاطعة مع نهاية العلاقة بين كوكو وإيجور. هنا، يرتكز جمال الفيلم علي عنصر الموسيقي وعلي الديكور، بإيقاعات الأبيض والأسود التي تميز تصميم الملابس وديكور البيت في منزل كوكو شانيل، وزخارف الأرت ديكو النباتية التي عرفت بها فترة العشرات والعشرينيات من القرن العشرين، يؤكدها التصوير باستخدام ملامح من لوحات أشهر فناني الفترة أمثال كليمت ومن بعده علي اختلافهما موريتس إيشر. وكأن العالم كله يتسع فجأة ليضم إلي عالم الموسيقي الرحب تيارات التجديد الهائلة التي أبدعتها أوروبا في بدايات القرن الماضي. وكأن الكاميرا التي تلتقط اللقطة القريبة وتدخلنا إلي عقل سترافنسكي أثناء التأليف هي أيضا عين واعية بكل هذه التيارات الفنية التي لا شك كان لها تأثير كبير علي نمط الموسيقي الذي قدمه سترافنسكي، وربما يكون من أهمها بداية وتطور فن السينماتوجراف نفسه.