عاد السفير الأمريكي بالقاهرة باتل مرة أخري إلي ذكرياته عن مصر قائلاً إن الولاياتالمتحدة أوقفت شحنات القمح حيث لم يدع الكونجرس للخارجية الأمريكية أي فرصة للتحرك. ويعلق باتل بالقول إنه لا يعرف عما إذا كانت الأمور ستكون مغايرة إذا ما كانت واشنطون قد أفرجت عن شحنات القمح قبل نهاية العام كما رغب المصريون. وعندما عرفت الحقائق حول عملية إحراق المكتبة وإسقاط الطائرة الأمريكية، كان الأمر متأخراً جداً بالنسبة للصحافة الأمريكية حيث فقدت كل الاهتمام بهذه الموضوعات. وحتي إهداء عبد الناصر مبني جديداً لمكتبة السفارة لم ينشر إلا في الصفحة 32 من النيويورك تايمز، مع أن إحراق المكتبة بالطبع احتل من قبل الصفحات الأولي. ولحسن الحظ كما يقول السفير فإنه بعد فترة طويلة حصلت الحكومة الأمريكية علي قرار بمد فترة شحنات القمح لمصر، وهو ما أعقبه من عمليات بيع أخري لمصر فقد أمكن عقد اتفاقية مدتها ثلاث سنوات بين واشنطنوالقاهرة تبدأ بعدها المفاوضات لمد الاتفاقية مرة أخري. لم يكن باتل يظن أن هذا هو الأسلوب الأمثل لأنه كان يعتقد أنه لا يمكن الاستمرار في المساعدات لمصر إلا إذا كان الجو مهيئاً للحصول علي موافقة الكونجرس. عبد الناصر كان يعتقد أنه يقدم صنيعاً للأمريكان لأن ذلك يعفيهم مسئولية تخزين القمح. ولذلك فإن باتل كان يري ضرورة استمرار المفاوضات بين الجانبين طوال الوقت من أجل تذكير الحكومة المصرية أن من واجبها الاحتفاظ بجو سياسي ملائم إذا كانت تأمل في الحصول علي مساعدات أخري، ولذلك فإنه كان يريد التفاوض لعقد اتفاق مدته ستة شهور فقط أو سنة علي الأكثر، وهو ما سيساعد دائماً علي تذكير المصريين بفوائد الحفاظ علي علاقات معقولة بين البلدين إذ إن مدة ثلاث سنوات مدة طويلة جداً لا تسمح بإجراء أي ضغط، إذ كانت تمكن للمصريين أن يقولوا أو يفعلوا خلال هذه المدة ما يريدون. وخلال الفترة التي لم تكن فيها هناك أي مساعدات، فإن عبد الناصر لم يتحدث عن الولاياتالمتحدة. وعندما كان السفير باتل يقابله حاملاً معه ما جاءته من تعليمات من واشنطن، وكانت المقابلة تستغرق عادة نصف ساعة لبحث الموضوع مهما كان، وعندما كان يهم بالوقوف، فإن عبد الناصر كان يطلب منه الانتظار قائلاً: «ابق سيادة السفير» وعندها يجلس مرة أخري ،فإن الحديث كان يجري لأكثر من ساعتين في حوار عميق، وكان يستمتع دائماً به حيث كانا يبحثان في أمور تهم البلدين. في إحدي المرات سأله السفير باتل «سيدي الرئيس لماذا تدلي بهذه الخطب الفظيعة (ضد الولاياتالمتحدة)، إنني أعمل بجد من أجل تحسين العلاقات وتقوم أنت وتنسف كل شيء بخطاب واحد؟». كان عبد الناصر يجيب عن ذلك بالقول: «إنني مجرد أتحدث إلي شعبي فقط». وهنا كانت باتل يقول له «إن ذلك مستحيل حيث هناك أشخاص عديدون حول العالم يستمعون إلي ما تقوله، وخطبه تجعل الأمر أكثر صعوبة إذ يتوجب عليه أن يشرح ذلك لأعضاء الكونجرس الذين يشعرون بالغضب من ذلك». وهنا كان السفير علي حد قوله يقترح عليه قائلاً: «في كل مرة يقوم فيها رئيس الولاياتالمتحدة أو نائبه أو وزير الخارجية بالأداء بتعليق سلبي عنك (أي عبد الناصر) أو مصر فإنك تستطيع الرد عليه بمثل ما قالوه، ولن أحتج أو أعترض تحت أي ظروف، ولكن عندما تقرر أن ترد علي تصريحات أحد أعضاء الكونجرس غير المعروفين، فإنك تنجح فقط في زيادة تأثير هذه التصريحات وتجذب الأنظار إليه أكثر مما يستحق، وأنت بذلك تضعف من قضيتك. يقول إن عبد الناصر بالطبع لم يكن يعتقد قط أن باستطاعة عضو الكونجرس أن يدلي بتصريحات ضده دون تعليمات من الرئيس الأمريكي. علق السفير قائلاً إنه بعد هذا الحديث فإن مسلك عبد الناصر كان جيداً جداً لفترة من الوقت، وبعدها بدأت الأمور تسوء مرة أخري. يقول السفير في هذا الصدد إن أفريل هاريمان (نائب وزير الخارجية) ذهب إلي إسرائيل عقب ما أسماه بالفضيحة وفي رأيه لم تكن فضيحة بالفعل ولكن كانت مجرد غلطة سيئة حيث كانت واشنطن تشجع الحكومة الألمانية علي بيع الدبابات لإسرائيل ثم تقوم الولاياتالمتحدة بتقديم دبابات أمريكية أخري أكثر حداثة للألمان. في البداية أنكرت واشنطن أن يكون لديها أي علم بذلك ولكن عندما انكشف الأمر بدأ الجميع في اتهام الولاياتالمتحدة بأنها غير أمينة، ويعترف باتل أنها بالفعل كانت كذلك. وحتي ذلك الوقت كان ملماً بما فيه الكفاية بأسلوب وبرنامج عبد الناصر ويستطيع أن يتنبأ بما سيتضمنه خطابه القادم، كان يحاول من جانبه السعي لتجنب أي تعليقات معادية لأمريكا خلال هذا الخطاب. ولذلك كان يتصل بسامي شرف (سكرتير الرئيس للمعلومات) الذي يصفه أنه كان الشخص الذي يتحكم في مقابلات الرئيس عبد الناصر ويطلب منه تسليم الرئيس رسالة تقول إن الأنباء التي خرجت من إسرائيل خلال زيارة هاريمان ليست صحيحة وشوهت ويعد بأن يرسل تقريراً كاملاً إلي الرئيس ويطلب مقابلته ليبلغه إياه، لأن التقارير الصحفية الأمريكية لا تكون دقيقة. ولذلك فإن باتل في رسالته كان يعرب عن أمله في ألا يقوم الرئيس بأي رد فعل إلا بعد أن تصل إليه الحقيقة كاملة. وعندما قابل باتل الرئيس بعد ذلك بأيام قال له عبد الناصر: «إنني سعيد أنك تحدثت حول زيارة هاريمان لإسرائيل، لأنني كنت علي وشك أن أتعرض للموضوع في خطابي القادم. وأنت علي علم كيف أتصرف خلال مثل هذه الخطب فمن جانبي فإنني أدون كتابة فقرات قصيرة ثم أتحدث باستفاضة عن الموضوع»، يقول باتل إنه استخدم لثلاث مرات ما أسماه بالدبلوماسية الوقائية ونجح في ذلك علي الأقل لفترة، ولكن الشهور الأخيرة له في القاهرة كانت صعبة جداً جداً جداً له. في الحلقة القادمة يحدثنا السفير باتل عن سعي القاهرة لاستخدام رجال أعمال أمريكيين. * أمين عام الجمعية الأفريقية