اللواء صلاح الدين حامد النشائي كان أباً مثالياً ومنذ أن توفي منذ نحو عقدين وأنا أفهم كم كان هذا الرجل إنساناً وأباً عظيماً. من الراتب الذي أذكر أنه كان خمسة وأربعين جنيهًا شهريا استطاع أن يربي ثلاثة علماء وأساتذة في جامعات عالمية وأن يؤثر فيهم بشكل كبير لا تفهم حياتهم دونه. كوني الابن الأكبر كان مسئولية أصعب وأكبر مني وفي المقابل نلت أكبر قسط من الاحتكاك به وبعمله كضابط في الجيش المصري منذ الطفولة. أتذكر أني كنت أذهب معه إلي وادي حوف في الصحراء الشرقية حيث مخازن الذخيرة للجيش وأبقي معه لعدة أيام ننام فيها داخل مغارات وعلي فراش عسكري وهي تجربة فريدة لطفل سنه أربع أو خمس سنوات. أتذكر المرور معه ليلا في تكنات الجيش في العباسية والحراس ينادون بكلمات قف من أنت ثم يسألون عن كلمة السر وهم يشهرون الأسلحة في وجهينا. لم يقتصر الأمر علي ذلك بل تطور إلي ليال طويلة يقص فيها والدي علي قصصه في معركة العلمين وبعد ذلك حرب فلسطين. كان يشرح لي بالتفصيل طريقة روميل رئيس الفيلق الأفريقي للجيش الألماني في الهجوم وطريقه مونتجومري قائد الجيش الإنجليزي في الدفاع. شرح والدي لي كيف كان الجيش الإنجليزي يستخدم الجنود الهنود المشاة في مسح ألغام الألمان في الصحراء الغربية لأنهم أرخص من استخدام المدرعات. بعد ذلك بدأ أبي يعطيني الكتب العسكرية حتي أقرأها وكان أهم كتاب في نظره هو كتاب الألماني كلوزافتس الذي كان بمثابة إنجيل العلوم العسكرية لوقت قريب. كنت لا أستطيع الذهاب إلي السينما يوم الخميس إلا بعد أن يختبرني أبي في جدول الضرب الكبير ثم في كتاب كلوزافتس «من الحرب» ثم كتاب «الأمير» لميكيافيلي. بذهابي إلي ألمانيا تركت كل ذلك لدراسة الفن والفلسفة والأدب الأوروبي ثم قليل من الهندسة المدنية. فمرغم أخاك لا بطل. وعلي الرغم من ذلك كان أملي في الدنيا أن أكون ضابط جيش أو مدرساً في الفنية العسكرية وأن أستشهد في تحرير فلسطين كما كنت أريد في صغري الاستشهاد في طرد الإنجليز من مصر إذا لم يكن من الموت بد لأن الحقيقة أحب وأفضل ألف مرة من الحياة.. ونكمل غدًا.