في قصيدة "مرثية لاعب سيرك"، كتب الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي : "في هذا العالم المملوء أخطئ.. مطالباً وحدك أن لا تخطأ" هكذا يعيش كل صاحب رسالة في هذا الوقت حياه أشبه بلاعب السيرك الذي يمشي علي الحبل بتركيز فائق الدقة، يحسب كل خطواته.. يصم أذنيه عن تصفيق الجماهير، لايفكر في الشهرة، يغض البصر عما يدور حوله.. لاينظر إلا الي الامام ليعبر التجربة، يكتم أنفاسه.. لا يستنشق عبق عطور النسوة في المكان، لايشعر بأي شيء حوله.. ليس له من متعه سوي الوصول للضفة الاخري من الحبل، والسيرك.. سيرك بكل معاني الكلمة، واللاعب جزء لا يتجزأ من السيرك.. لكنه لا يتأثر به رغم أنه يعيش به ومن أجله! وحينما يخطئ هذا اللاعب أي خطأ ..يفقد توازنه.. يسقط.. يموت دون تصفيق من أحد أو حتي دمعة وداع.. سوي من بعض الشعراء المهمومين بالانسان وقدره. هكذا يعيش بيننا ويرحل عنا أصحاب الرسالات في هذا السيرك- الوطن- المسمي مصر المحروسة "سابقاً". حينما عاد أحمد عرابي من منفاه إلي الوطن كان الجميع يتهمه بالخيانة.. وفي أحد الايام خرج من منزله ليصلي الجمعة، اقترب منه شاب من شباب الحزب الوطني القديم سأله: أنت أحمد عرابي؟ رد عرابي نعم. بصق الشاب علي وجهه ونعته بالخيانة، عاد عرابي لمحبسه الاختياري ولم يخرج منه الا الي مثواه الاخير!! عاش الزعيم الوطني محمد فريد في المهجر حباً في مصر ودفاعاً عنها ومات بائساً وفقيراً دون ان يتعاطف معه حتي اقرب الناس إليه، ولم تسانده سوي صديقة يهودية ألمانية ، وحينما بلغ به الفقر والبؤس باع معطفة الشتوي لكي يشتري دواء لداء السل الذي أصابه، في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الشعبية تهتف في مصر "سعد سعد يحيا سعد"، كان فريد يموت جوعاً وبرداً وكمداً!! وحينما نجحت ثورة يوليو 1952 ..برز ثلاثة فرسان نبلاء لعبوا الادوار الاساسية في نجاحها: الفارس الأول: البكباشي يوسف صديق.. أول من خرج واستولي علي قيادة الجيش في الوقت الذي كانت رئتاه تنزفان دماً، وعبد الناصر والسادات كانا يريدان تأجيل موعد الثورة، وحين اختلف مجلس قيادة الثورة مع يوسف صديق حول قرار المجلس باعدام العاملين "خميس والبقري" شهداء كفر الدوار قام جمال عبد الناصر باعتقال يوسف صديق وحرمه السيدة علية في السجن الحربي!! أما الفارس الثاني: الصاغ خالد محيي الدين.. كاتب أول بيان للثورة ، فقد كان الاسعد حظاً في بطش عبد الناصر قد تم نفيه وأسرته الي سويسرا بتهمة الدفاع عن الديمقراطية والمطالبة بعودة العسكريين الي الثكنات. الفارس الثالث: اللواء محمد نجيب.. الاب الروحي للثورة فقد كان الاتعس حظاً في الفرسان الثلاثة حيث تم اعتقاله تحت الاقامة الجبرية بأوامر من عبدالناصر بتهمة الدفاع عن الديمقراطية والمطالبة بعودة الجيش للثكنات، ولأكثر من ثلاثين عاماً تحمل كل انواع الاهانة والاذلال حتي رحيله عن عالمنا. هؤلاء الفرسان النبلاء لم يصف أحدهم حساباته لا مع الثورة ولا مع ناصر رغم جراحهم العميقة ولم يبق منهم علي قيد الحياة سوي خالد محيي الدين اطال الله عمره..وبالطبع لم يهتم احد بكل هؤلاء الفرسان (أحمد عرابي، محمد فريد، يوسف صديق، خالد محيي الدين، محمد نجيب) ولم تقرر شركة إنتاج ولا التليفزيون المصري في إنتاج فيلم أو مسلسل عن أي من هؤلاء، أما الإعلام الخاص فلا يمكن ان يمول تلك المسلسلات والافلام لانها لن تدر ربحاً أو إعلانات تذكر، وهكذا تظل في الذاكرة الحية للشباب المصري "نموذج البطل" هو ما يروج له الاعلام الخاص مثل المرحوم خالد سعيد أو المطرب أبو الليف، أو لاعب الكرة الكابتن جدو، مع كامل احترامي لهم جميعاً. وحتي دعاة المجتمع المدني وأغنياء التمويلات الجدد لم نسمع عن احد منهم قرر ان يحيي ذكري رائد فاضل من رواد المجتمع المدني مثل د.سعيد النجار مؤسس جمعية النداء الجديد، أو أن يقوم بلمسة وفاء للشهيد فرج فودة، وهكذا تتعدد الأمثلة وتتسرب من الذاكرة الوطنية نماذج وأفكار وشهداء بما في ذلك شهداء حرب أكتوبر المجيدة، فالمدينة المسماة (6 اكتوبر) أغلب اسماء شوارعها لا تمت لهؤلاء الشهداء بصلة رغم انهم عبدوا بدمائهم طريق النصر الذي حصد أرباحه بضعة تجار ورجال أعمال وضعت أرباحهم أسماءهم علي جدران المدينة التي لازالت مخضبة بعبق رائحة أنفاس الشهداء الأخيرة، رحم الله كل هؤلاء ورحم الله الشعب المصري من صانعي الذاكرة المزيفة عبر تحالف الإعلام والبزنيس في زمن صار فيه الدولار الناطق الرسمي باسم- الرسالة والبطولة في هذا الوطن.