القسم الثاني: الفارون من الله: أما هؤلاء القوم فهم أنفسهم أولئك القوم الفارون إلي الله، لكنهم سئموا طول الانتظار وملوا من الوعود التي لم تتحقق ومن الرزق الذي لم يأت، لقد ضاقوا ذرعا من الفقر، والعجز والإفلاس والحاجة والذل والمسكنة والمرض والانكسار والهم والحزن، ولم يجدوا أبواب السماء وهي تفتح لهم لتهبط عليهم البركات ولم تنشق الأرض فتخرج لهم الخيرات، لم يغنهم إيمانهم بالله من فقر، ولم يشفهم من مرض، ولم يعزهم من ذل، ولم يجبرهم من كسر، ولم يمسح إيمانهم عن قلوبهم الهم والحزن،فقرروا الفرار من الله الذي لم يروا منه شيئا ماديا تلمسه أيديهم، وتراه أعينهم، فلم يأتهم منه ما يشبع بطونهم ويملأ جيوبهم أو يدفع عنهم الفقر والمرض والذل والحزن والهم. فآثروا الهروب من أجوبة الأسئلة القديمة الجديدة (من أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلي أين المصير؟) وآثروا السلامة (أحيني اليوم وأمتني غدا)، (وعصفور في اليد أفضل من عشرة علي الشجرة)، لأنهم يوقنون حتما بأنهم سيموتون. فقالوا: ماذا يضيرنا لو كان هناك خالق أو لم يكن؟ فإذا كان هناك خالق فلماذا لم نره؟ ولماذا لم يأت إلينا أو يأخذنا إليه لنتعرف عليه أو يعرفنا بنفسه؟ فلو رأيناه وتأكدنا منه حقا لآمنا به وصدقناه وأطعنا أوامره، لو كان هناك إله حقا فلماذا أخفي عنا ذاته؟ لماذا أرسل إلينا رسلا وأنزل علينا كتبا؟ لماذا تركنا نختلف فيما بيننا ويقتل بعضنا بعضا؟ لماذا خلق أناساً وهو يعلم أنهم سيعذبون؟ ولماذا خلق آخرين وهو يعلم أنهم سينعمون؟ هل هو بحاجة إلينا؟ وإذا لم يكن بحاجة إلينا فلماذا خلقنا؟ نحن لا يهمنا من أين أتينا ولا إلي أين نذهب، ما يهمنا هو كيف نعيش وكيف نأكل ونشرب ونحيا ونستمتع ونخلق الرخاء في الحياة لنا ولغيرنا. نحن لسنا بقاصرين حتي نحتاج إلي إله ينظم لنا حياتنا أو يعلمنا كيف نعيش، فنحن نستطيع أن نضبط أمورنا بأنفسنا وننظم حياتنا وفق ما ترتئيه عقولنا ونحن قادرون علي توفير الأمن والعدل والرخاء لجميع الناس ولا حاجة لنا بإله. فهل حقق هؤلاء القوم ما فروا من الله لأجله؟ هل استطاعوا باستغنائهم عن الله أن يقضوا علي الفقر والمرض والذل والحاجة والحروب والدمار والخراب في العالم كما زعموا؟ هل أقاموا العدل حقا في العالم؟ هل قضوا علي الظلم في العالم؟ هل منعوا أنفسهم من ظلم الناس أو من ظلم بعضهم بعضا؟ هل استطاعوا أن يكفوا أيديهم عن سفك دمائهم ودماء غيرهم؟ هل من ضمانة لعدم الاختلاف والاقتتال فيما بينهم في المستقبل؟ هل تخلصوا من القوة المدمرة المعلقة علي رأس العالم والمهددة له بالفناء؟ هل وجدوا ضالتهم بالفعل؟ هل أغنتهم أنفسهم وعقولهم عن الحاجة إلي الله؟ وأخيرا أليس من الممكن أن يكون في الناس قسم ثالث؟ ويا تري من يكونون وكيف هم؟