قبل عشرين عاما، في الثاني من أغسطس 1990 ارتكب صدام حسين حماقة اجتياح الكويت وضمها واعتبارها المحافظة العراقية رقم 19 ، قضت الكويت علي صدام وأرسلته إلي مزبلة التاريخ بسبب جهله وغبائه اللذين كانت غزوة الكويت أفضل تعبير عنهما. أعتقد صدام بكل بساطة ان في استطاعته الاستفادة من مرحلة من الفراغ علي الصعيد الدولي ناجمة عن انتهاء الحرب الباردة وقرب انهيار الاتحاد السوفيتي. اعتقد أيضًا أن في استطاعته سد الفراغ وأنه قوة عظمي إقليمية قادرة علي التفاوض في شأن مستقبل المنطقة. لم يتوقف صدام ولو لحظة أمام المرآة ليسأل نفسه من الذي سمح للعراق بالصمود في مواجهة إيران بين العامين 1980 و1988 في حرب استمرت أكثر من الحرب العالمية الأولي أو الثانية؟ لم يطرح ولو مجرد سؤال عن الدعم الأمريكي الذي تلقاه في تلك المرحلة وهو ما حال دون تمدد إيران في اتجاه العراق ومنطقة الخليج. ولكن ما العمل عندما لا تكون هناك حدود للجهل وعندما تجتاح القرية المدينة.. عندما يتحكم الريف بثقافته المحدودة جدًا والبدائية ببغداد.. بدل أن يتعلم الريفي القادم إلي المدينة من ثقافتها ويرتوي منها! لم يعرف الرئيس العراقي وقتذاك انه في اليوم الذي سقط فيه جدار برلين في نوفمبر 1989، لم تعد هناك سوي قوة عظمي وحيدة في العالم اسمها الولاياتالمتحدةالأمريكية وأن هذه القوة كانت قادرة في تلك المرحلة علي التحكم بمصير العالم وذلك قبل حدوث تصدعات كشفت لاحقا أن العالم لم يعثر بعد علي نظام دولي جديد وأن هذا النظام لا يزال يحتاج إلي سنوات عدة كي يتبلور. لم يكن صدام قادرا علي استيعاب التحولات الإقليمية والدولية. كانت تتحكم به عقدة المدينة. ذهب إلي الكويت وهو يجهل انه لن يجد كويتيا علي استعداد لخيانة بلده. ذهب إلي الكويت يرافقه شعور بالاستخفاف بوطنية آل الصباح وصلابتهم وقدرة الثلاثي الشيخ جابر الأحمد والشيخ سعد العبدالله، رحمة الله عليهما، والأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد علي تجييش العالم لنصرة الكويت وأهلها. ذهب إلي الكويت من دون أن يدرك أن العالم لن يسمح بهذه الخطوة وأن كل ما يحكي عن بلدان تعتبر نفسها قوي إقليمية، قادرة علي لعب أدوار تفوق حجمها، مجرد هراء بهراء. في الحرب العراقية الإيرانية استنزف صدام حسين الثروات العربية. وبارتكابه جريمة احتلال الكويت، غير المعطيات الإقليمية بشكل جذري، لم يستوعب في أي لحظة انه سيخرج منها مهزوما وأنه حفر قبره بيديه، خصوصا أنه لم يدرك معني الإقدام علي عمل مجنون أفقده أي نوع من الصدقية لدي الإدارة الأمريكية ولدي الأوروبيين.. ولدي العرب أولاً. في الواقع، كان احتلال الكويت الخطوة الأولي علي طريق فتح أبواب بغداد أمام الأمريكيين وتسليم مناطق واسعة من العراق إلي إيران وتحويلها المنتصر الأول والوحيد في الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة في العالم 2003. من الزاوية الاستراتيجية، خلف احتلال الكويت كارثة عربية تفوق في حجمها كارثة الحرب العراقية الإيرانية التي استنزفت الخليج ودوله. كشفت المغامرة المجنونة لصدام حسين ونظامه العائلي البعثي أن لا وجود لما يمكن تسميته شبكة أمان عربية تحول دون عدوان بلد عربي علي آخر. الضمان الوحيد لأي شعب عربي يريد المحافظة علي كيانه السياسي وثرواته هو المجتمع الدولي الذي اعاد الكويت إلي الكويتيين. لا شك أن صمود الشعب الكويتي الرافض للاحتلال كان عاملا مهما في استرداد الكويت لحريتها وسيادتها، كذلك الجهود التي بذلها الأمير الراحل وولي عهده والشيخ صباح. ولكن مالابد من الاعتراف به أن الجريمة التي ارتكبها النظام العراقي تركت أثرًا بالغًا في الكويت ومنطقة الخليج كلها. فقد مر الكويتيون سياسيًا واجتماعيا في أكثر من مرحلة بعد انتهاء كابوس الغزو العراقي. في مرحلة أولي، استمر البحث علي الصعيدين العربي والدولي من أجل تحصين السيادة من خلال اتفاقات أمنية بعضها ينتهي في السنة 2012 وبعضها مرشح للتجديد. في موازاة مرحلة ما بعد التحرير، كان الكويتيون يعودون بحذر إلي بلادهم، علي الرغم من أنهم كانوا يعيشون فيها. كانت العودة حذرة بسبب استمرار الخوف من وجود نظام صدام حسين الذي لم يوفر مناسبة لتذكير الكويتيين بالغزو إلا وفعلها. وعلي سبيل المثال وليس الحصر، حصل احتفال في بغداد بمناسبة فوز «المحافظة ال19» ببطولة كأس الخليج لكرة القدم. كان الاحتفال العراقي بفوز الكويت بكأس الخليج أواخر التسعينيات وذلك من أجل إرهاب الكويتيين لا أكثر ولا أقل. كذلك كرر المسئول العراقي الكبير طه ياسين رمضان الجزراوي (اعدم لاحقا) عبارة أن الحدود الكويتية العراقية تم ترسيمها ظلما وأن العراق سيلغي ما فرض عليه. كانت استثمارات الكويتيين في تلك الفترة تعود إلي الكويت، لكنها كانت تبقي موطئ قدم في الخارج تحسبا لمغامرة ما من العراق أو صفقة ما تحصل علي حساب الكويت.. يمكن القول أن مرحلة ما بعد التحرير وحتي سقوط بغداد كانت مرحلة إعادة البناء مع أولوية مطلقة للأمن.. أما بعد سقوط بغداد، فصارت هجمة علي قطاعات التنمية من الكويتيين وغير الكويتيين وصارت الكويت ممراً ليس للجنود الذاهبين إلي العراق فحسب، بل ممراً للشركات التي تولت إعادة بناء العراق وبينها مساهمات كويتية قوية أيضا.. وهناك جدل كبير في الكويت حاليا في شأن الاستفادة مع واقع ما بعد صدام الذي ترافق مع ارتفاع تاريخي في أسعار النفط.. يرافق الجدل كلام عن اضاعة فرص كبيرة كان يمكن استثمارها في مجالات مختلفة. في المرحلة الراهنة، لا تزال هناك هواجس كويتية، خصوصا أنه تخرج من العراق أصوات شبيهة بالاصوات البعثية تشكك بوضع الحدود أو ترفض بالمطلق دفع التعويضات أو تتحدث عن سرقات نفطية إلخ.. مثل هذه الامور تعالجها أصوات عاقلة في البلدين.. علي رأس هذه الأصوات نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الكويتي الشيخ محمد الصباح ووزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري اللذان يتحدثان اللغة نفسها تقريبا.. ولا شك في أن تأخير إعادة ترتيب البيت السياسي العراقي يساعد في ظهور أصوات لا علاقة لها بالعقل والتعقل، أصوات تحاكي حالات شعبية وغرائز في ظل غياب سلطة مركزية قوية في العراق. هناك أخيراً الموضوع الإيراني الذي لايقلق الكويت وحدها، بل كل دول الخليج في الوقت ذاته.. فانتشار النفوذ الايراني في العراق، مع تباهي الايرانيين بالقول إنهم يقودون محورا من حدود الصين إلي غزة، يعنيان أن جنوب العراق قد يتحول إلي منصة صواريخ إيرانية، علما بأن الكويت تمتلك سياسة عاقلة منفتحة علي الايرانيين وغيرهم.. بعد عشرين عاما علي الذكري الأليمة، يبقي الخوف من سياسات متهورة تظهر في منطقة تلتهب ولا تريد الاستفادة من تجربة صدام وما حل به.. وهذا يجعل الكويتيين ومعهم الخليجيون يتذكرون دائما التجارب المرة التي مروا بها علي الرغم من انتقال صدام إلي عالم آخر.