تشير الأساطير الإغريقية إلي أنه كانت هناك فتاة غاية في الجمال، بحيث لم يكن لجمالها نظير أو مثيل، وكانت جذابة بحيث جذبت إليها كل رجال المدينة.. وكانت هذه الفتاة تدعي "ميدوسا".. غير أن حظها العاثر جعلها تتعرض لحادث اغتصاب من قبل "بوسيدون" وذلك في معبد أثينا.. وهو ما جعلها تكره نفسها، وتكره جمالها الذي جعلها تتعرض لهذا الموقف.. فدعت الألهة أن تحول شعرها إلي ثعابين بحيث تخيف كل من يقترب إليها، وأن يتحول كل من ينظر إلي عينيها إلي حجر.. وأصبحت "رأس ميدوسا" نموذجاً للشر المستطير، وللخوف الكبير.. ونتيجة لذلك، فقد أمرت الألهة بقطع رأسها، وإن ظلت ثعابين شعرها، وقسمات وجهها الحجرية تذكر الناس بما آلت إليه، فالجمال قد تحول إلي قبح، والجاذبية قد تحولت إلي دمار.. شيء من هذا التحول أجده حالياً في حرية الإعلام؛ ذلك الحلم الرومانسي الذي داعب ولا يزال يداعب خيال كثير من العاملين في هذا المجال والمشتغلين فيه.. ذلك الحلم تحول بسبب أخطاء وخطايا بعض العاملين فيه إلي كابوس ثقيل يسيطر علي الأداء الإعلامي بصفة عامة.. إن هناك شعرة أو خيطاً رفيعاً بين الحرية بمفهومها الواسع، وبين الفوضي التي يمارسها البعض.. كما أن هناك شعرة أيضاً بين الشجاعة التي هي من أجمل الصفات وأرقاها، والوقاحة التي هي من أسوأ الصفات وأرذلها.. ولابد من إقامة حدود فاصلة بين هذه المفاهيم حتي يستقيم الأداء، وتصبح الأمور في نصابها.. خذ علي سبيل المثال، المعالجة الإعلامية لكثير من الأحداث والقضايا المعاصرة مثل قضية أرض ميدان التحرير أو قضية جزيرة آمون، أوقضية الشاب السكندري خالد سعيد، أو قضية التعليم في مصر، نجد أن هناك طابعاً غالباً علي كل التناولات الإعلامية لها، وهي أن وسائل الإعلام أظهرت لمشاهديها ولجمهورها "رأس ميدوسا" بكل الثعابين التي في شعرها، وبكل النظرات الحجرية التي تمثلها.. لقد أظهرت هذه المعالجات الوجه القبيح لحرية الإعلام: عرض الموضوعات بدون معلومات كافية، التحيز لوجهة نظر محددة ومسبقة، البحث عن الجوانب السلبية والقبيحة في أي موضوع وترك كل ما هو جميل ومشرق، واستخدام وسائل الإعلام كمنابر للهجوم الشخصي علي الخصوم دون وجه حق.. لقد كانت الحرية هي أجمل ما في ميدوسا وفي وسائل الإعلام، وكانت جاذبيتها هي سر بقائها وسر قوة وسائل الإعلام، فلماذا يحرص البعض علي إظهار الوجه القبيح لميدوسا وعلي تجريد وسائل الإعلام من كل ما يميزها؟!