تكملة لمقال الأمس أعرض بعض أقوال المفسرين والسلف حول تفسير آيات سورة القيامة (16: 19)، أما القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) فقد ساق بعض الروايات التي تحكي محض آراء لابن عباس رأي فيها أن آيات سورة القيامة (16: 19) تقصد القرآن الكريم، وحين أمعنت النظر في تلك الروايات رأيتها محض آراء لابن عباس وليس إخبارا مباشرا من النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فذكر القرطبي ما يلي: (في الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يشتد عليه حفظ التنزيل وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل مخافة أن لا يحفظ، فأنزل تعالي: (لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ) أي بالوحي والتنزيل والقرآن، وإنما جاز هذا الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه، كما أضمر في قوله: (إِنَّا أَنزَلْناهُ فِي لَيلَةِ الْقَدْرِ) قال أبوعيسي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جُبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدّة، كان يحرّك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحرّكهما؛ فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحرّكهما، فحرك شفتيه؛ فأنزل الله عز وجل: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه؛ قال: فكان رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلي الله عليه وسلم كما أقرأه؛ خرّجه البخاري أيضاً. وقيل: كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرّك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يقْضَي إِلَيكَ وَحْيهُ) (طه: 114) ونزل: (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَي) (الأعلي: 6) ونزل: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ). قاله ابن عباس انتهي. وكما نري كلها محض روايات وأخبار متناقضة ومتضاربة في نصوصها منسوبة لابن عباس، وليس فيها أي إخبار مباشر من الرسول عن نفسه، وإنما محض رأي وروايات منسوبة لابن عباس. أما البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) فقد ذكر في آيات سورة القيامة ما يلي: (وقيل الخطاب مع الإِنسان المذكور والمعني أنه يؤتي كتابه فيتلجلج لسانه من سرعة قراءته خوفاً، فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإن علينا بمقتضي الوعد جمع ما فيه من أعمالك وقراءته، فإذا قرأناه فاتبع قراءته بالإقرار أو التأمل فيه، ثم إن علينا بيان أمره بالجزاء عليه.) انتهي. وقد ذكر أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) ما قاله القفال وما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الذي ذكرناه آنفا. أما الطبطبائي (المفسر الشيعي) فقال في تفسيره (الميزان في تفسير القرآن) ما يلي: (وعن بعضهم أن الآيات الأربع متصلة بما تقدم من حديث يوم القيامة، وخطاب (لا تحرك) للنبي صلي الله عليه وآله وسلم، وضمير (به) ليوم القيامة، والمعني لا تتفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً ولو كنت غير مكذب ولا مستهزئ (لتعجل به) أي بالعلم به (إن علينا جمعه وقرآنه) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه ونوحي شرح وصفه إليك في القرآن (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له (ثم إن علينا بيانه) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور.) انتهي. أما ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) فقد ذكر قول القفال وقول البلخي في أن الآيات ليس مقصودا بها القرآن وإنما مقصود بها إما الإنسان وإما يوم القيامة، فقال ابن عاشور معلقا علي ذلك بما يلي: (وأقول: إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه) انتهي. وفي النهاية لا يخفي علي كل من له نظر وفكر سليم أن آيات سورة القيامة (16: 19) لا يمكن أن يكون مقصودا بها القرآن الكريم، وهذا لعدم وجود أي ذكر للقرآن الكريم في السورة بأكملها من أولها إلي آخرها، ولا وجود لذكر القرآن الكريم كذلك في الآيات نفسها (16: 19) من سورة القيامة محل النقاش، وكذلك لما سبق ذكره من براهين تنفي ذلك. وعليه فجمع القرآن الكريم كان عملا بشريا محضا قام به رسول الله وصحابته من بعده، وليس جمعا إلهيا غيبيا كما يذهب إلي ذلك القرآنيون الذين ينكرون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في محاولة يائسة منهم لقطع القرآن من محيطه التاريخي والبشري ومن الذين نزل عليهم ليقولوا فيه ما يشاءون وفق أهوائهم. فمن أراد أن يعرف كيف تم جمع القرآن الكريم فعليه بالرجوع لكتب التراث ليقدم من خلالها براهينه العلمية علي ذلك. لا أن يحدثونا بأحاديث الصوفية الذين يعتمدون علي الأساطير والخرافات والأوهام.