بعد عمل دؤوب طيلة أكثر من خمسة وعشرين عاما حصل الدكتور صلاح رزق رئيس قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة علي جائزة البابطين في النقد الشعري عن موسوعته "كلاسيكيات الشعر العربي... المعلقات العشر... دراسة في التشكيل والتأويل"، والمكونة من جزأين يتسعان لكل شعراء المعلقات العظام حيث قام بإدماج الماضي والحاضر من خلال تطبيق النظريات النقدية الحديثة علي قصائد هؤلاء الشعراء مع إبراز دور النص بين المتلقي والمبدع. وفي حواره معنا سألناه: كيف تم ترشيحك لهذه الجائزة؟ - حفزني بعض الأصدقاء الذين قرأوا الكتاب، وكانوا متابعين لمسيرة إنجازه، علي التقدم للجائزة، التي يشهد تاريخها وأسماء من سبقوا إلي نيلها بموضوعيتها وتميز لجان تحكيمها، فتقدمت إليها مع تزكية من المؤسسة الجامعية التي أنتمي إليها. لماذا اخترت تطبيق النظريات الحديثة علي الشعر القديم تحديدا؟ - الشعر العربي القديم كنز موروثنا الأدبي الذي لا ينفد، ويشبه كنوز الآثار الفرعونية القديمة، كلما استطاع المنقبون عنه اكتشاف شيء منها، قادهم اكتشافهم إلي مزيد من الإغراء الدافع إلي المزيد من الجهد، فتتوالي الاكتشافات المدهشة المضيئة. أما النظريات الحديثة، فالوعي بمنجزها فرض معرفي واجب، ومهارة توظيفها واستثمارها مسئولية فردية وجماعية، لذا من الطبيعي أن يحتشد ناقد العصر بكل ما من شأنه أن يعينه علي اكتشاف ورصد كنوز ميراثه. بم تميزت الدراسة التي حصلت عنها علي الجائزة عن غيرها؟ - إن فردية الرؤية وتفرد الأسلوب والمعالجة أمور من شأنها أن تسلم إلي شيء من الاختلاف، حتي لا يفهم من كلمة "تميزت" ما تستدعيه من ظلال الأفضلية، ولأجل هذا أستطيع القول إن الدراسة جاءت مختلفة، والحق أنني حريص دوما علي بذل الجهد فيما يحقق شيئا من الإضافة، وثمة مناطق بكر كثيرة تغري بإعمال الجهد دون حاجة إلي قول ما سبق الآخرون إلي قوله. استعنت برؤي نقدية لبعض النقاد مثل الدكتور كمال أبو ديب وريتا عوض وغيرهم، فعلي أي أساس استندت إلي هؤلاء دون غيرهم من النقاد؟ - طبيعة المادة المدروسة توجب علي اللاحق الاطلاع علي كل جهد سابق، والوعي بمنطلقاته وإنجازاته، وتلك ضرورة من ضرورات البحث العلمي، ولمن ذكرت جهد في هذا السبيل، ولذا وجب النظر فيه رغم الاختلاف معه. في ضوء حديثك عن الرؤية في الشعر العربي القديم، هل كان للمكان خصوصية في الدلالة الرمزية آنذاك؟ - المكان وما يمليه علي المرء من مشكلات وجودية والمناخ المعرفي عناصر فاعلة في تشكيل الرؤية الفردية ونسج خيوط التعامل مع العالم وتحديد الموقف منه وتلك هي مقومات التجربة الشعرية لدي الشاعر العربي القديم، ومن الطبيعي أن تفتح باب التأويل الكاشف عن خصوبة الرمز الوارد في البيئة الفنية للقصيدة القديمة. كيف تري العلاقة بين النص والمبدع من جهة والنص والمتلقي من جهة أخري في ضوء ما كتبت؟ - النص منجز المبدع والمتلقي معا، ولن يمنح عطاءه الحقيقي إلا علي جسر من التواصل المعرفي والإخلاص للقيمة الإنسانية المطلقة، والثقة في تجدد إشفاق اللغة خصوصاً حين توافينا في تشكيل فني حقيقي. ماذا تمثل لك هذه الجائزة؟ وكم من الوقت استغرقت في كتابة العمل الفائز؟ - ليست مبالغة حين أقول إن الصفحات الأولي من هذا العمل خطت سنة 1983 وبذلك يكون العمل قد أخذ مني ربع قرن تقريبا، بالطبع حالت دون التواصل اليومي للعمل حوائل كثيرة، تقتحم علي المرء عزلته وتفرض عليه إنجازها في زمن بعينه، لكن ذهني لم يتوقف عن التفكير في قضايا هذا العمل ومباحثه لحظة واحدة طيلة هذه المدة، أما الجائزة فتمنحني مزيد يقين بأن إتقان العمل وتجويده مهما كان الجهد المبذول والوقت المستغرق هو السبيل الوحيدة لإنجاز ما له قيمة جديرة بالتقديم. في رأيك هل تحتاج الأنواع الأدبية الجديدة إلي نظريات نقدية تلائمها، خصوصاً أن الساحة النقدية خالية من نقاد لمثل هذه الأنواع؟ - لا خلاف علي وجود ثوابت ومتغيرات، وحركة الإنسان تتغير بتغير الزمان والمكان، وكل ما يصدر عنه من دروب الإبداع والرؤي والسلوك متغير تبعا لذلك، ولابد إذن أن يجدد المبدع والناقد أدواتهما في إطار من المرونة لا حد له، ولكن لابد كذلك من إطراء الغذاء المعرفي المتجدد، وإنضاج التجربة الحيوية الواعية بحركة الكون. شاركت في مؤتمر النقد الدولي السابق فما تعليقك علي ما جاء فيه؟ - الحوار الفكري والمتابعة المعرفية ضرورة في حياة الناقد المعاصر، ولا شك أن الحركة الأدبية وتاريخها قادرة علي فرز المؤتمرات الجيدة المهمومة بالمنجز الأدبي النقدي علي نحو حقيقي، ومؤتمرات الدع ومجالس اللهو والشراب. بصفتك عضواً بجمعية النقد الأدبي حدثنا عن أهم فاعليات الجمعية وخططها للفترة المقبلة. - بعد رحيل الناقد الفذ عز الدين إسماعيل، مؤسس الجمعية وحامل تبعاتها لأكثر من عشرين عاما، اضطرب الأمر قليلا، لكن أعضاءها المخلصين العطاء للناقد الراحل، استطاعوا إعادة هيكلتها، ووضع خطة جيدة لمسيرتها في الفترة القادمة، التي تتمثل في إنجاز المؤتمر الدولي الخامس للنقد الأدبي، وإصدار أعمال المؤتمر الرابع، وإصدار مجلة للكتابات الأدبية والنقدية، فضلا عن برنامج الندوات الأسبوعية، التي تستأنف مع بداية الفصل الدراسي القادم. كيف تري المشهدين الأدبي والنقدي المعاصرين؟ - ثمة عطاء إبداعي متواصل من فنون الأدب جميعا، الشعر والقصة والرواية، لكن دور النشر المتكاثرة، التي يشكل الكسب المادي غايتها الملحوظة، وغلبة الطابع الفردي، الذي يفتقر إلي تصور مستقبلي أو خطة طويلة المدي، إضافة إلي أن كل من يكتب ويستطيع ماديا أن ينفق علي نشره يصدر ما يسميه "نصا" أو "كتابة"، هذا وغيره فتح الباب واسعا إلي نوع من الفوضي واختلاط الجيد بالرديء، لذلك تعظم مسئولية الناقد المعاصر ويزداد الواقع عليه ثقلا، ولابد من المواجهة، وعونا علي المواجهة الملائمة، نأمل أن تقوم دور النشر المحترمة والدوريات الأدبية المعنية ببذل الجهد المعين علي السبيل، وذلك بتقديم نشرات أسبوعية أو شهرية لكل ما يصدر، وتقديم العروض الموجزة للمحتوي، وإقامة ندوات الحوار والمناقشة حول أهم الأعمال، وفوق كل ذلك لابد من الأمانة العلمية، ونضج المواقف الذاتية، أعني ألا يجد الناقد أي حرج في الكشف عن جودة الجيد ورداءة الرديء، وألا يتردد في تحديد ما يراه سلبيا، أو يشكل نوعا من النقص الواجب تجاوزه فيما يقرأ من الأعمال الإبداعية. كما يتوجب ألا يغضب المبدع حتي إن بدا كبير الاسم متعدد الإبداعات طويل الباع، فليس ثمة عمل يخلو من نقص هنا أو هناك، بل إن الناقد الأمين مستحق للشكر من قبل المبدع وسواه، من المعنيين بصحة الحياة الأدبية والثقافة، التي نحياها.