يظن أكثر الناس إن لم يكن جميعهم في الماضي والحاضر أن الله هو من جمع القرآن الكريم، واعتمدوا في ذلك علي آيات سورة القيامة التي تقول: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيانَه ( 19)_ (القيامة)، ولا أدري ماذا في هذه الآيات قد جعل القوم في الماضي والحاضر يظنون أن المقصود بالجمع في هذه الآيات هو (القرآن الكريم)؟ ولو قمنا بإمعان النظر قليلا في سورة القيامة بأكملها لوجدنا أن هذه السورة وآياتها الأربعين لم تأت علي ذكر القرآن الكريم علي الإطلاق، وإنما تتحدث عن شيء آخر سوي القرآن الكريم. فالسورة في مجملها وتفصيلها تتحدث عن يوم القيامة وما سيحدث فيه من بعث لأجساد الموتي وجمع لعظامهم، وتتحدث عن سؤال الإنسان في الدنيا عن يوم القيامة واستعجاله بهذا اليوم العظيم، وتتحدث كذلك عما يحدث في ذلك اليوم من أهوال، ومن برق للبصر وخسف للقمر وجمع للشمس والقمر، وقول الإنسان يومئذ أين المفر؟ وتتحدث الآيات عن أن الإنسان سوف ينبأ يومئذ بما قدم وأخر من أعمال، وتذكر الآيات بأن الإنسان علي نفسه بصيرة مهما قدم من أعذار، ثم تنتقل الآيات بعد ذلك للحديث عن الإنسان الذي يحب العاجلة ويذر الآخرة، وتنتقل لعرض بعض مشاهد ذلك اليوم العظيم، الذي تري فيه وجوهاً ناضرة ووجوهاً باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة، وتنتقل الآيات في العرض الأخير من السورة إلي مشهد احتضار الإنسان وإشرافه علي الموت فقامت بعرض بعض مشاهد ذلك الفراق المؤلم الذي لا اجتماع بعده إلا في ساحة القضاء أمام من لا تخفي عليه خافية، فذكرت الآيات لحظة بلوغ النفس التراق والظن بأنه الفراق والتفاف الساق بالساق والسؤال عن الراق ولا يدري المحتضر أنها لحظة المساق، ثم تنتقل السورة إلي مشهد يعرض حال الإنسان يوم القيامة حين يجد نفسه لا صدق ولا صلي ولكن كذب وتولي وذهب إلي أهله يتمطي، وتلتفت السورة في نهايتها مرة أخري إلي الإنسان لتسأله: أيحسب الإنسان أن يترك سدي؟ ألم يك نطفة من مني يمني ثم كان علقة فخلق فسوي، وتختم السورة آياتها بسؤالها الأخير للإنسان عن مدي وعيه وإدراكه بقوة الحق سبحانه وقدرته علي كل شيء فتقول: (أليس ذلك بقادر علي أن يحيي الموتي)؟ هذا هو موضوع سورة القيامة من أولها إلي آخرها، لم نر فيه أي حديث يذكر عن القرآن الكريم ولا أي ذكر علي الإطلاق للقرآن، وإنما انصب حديث السورة كله عن الإنسان وحاله قبل يوم القيامة وأثناء يوم القيامة وبعد يوم القيامة، فهل يخطر ببال أحد أن الله في هذا المشهد الرهيب عن يوم القيامة الذي قام بعرضه من أول كلمة في السورة إلي آخر كلمة فيها، فهل يخطر ببال أحد أن يوقف الله الحديث فجأة بهذه الطريقة الفجة غير المبررة ليتحدث عن تحريك الرسول لسانه متعجلا بالقرآن وأنه هو سبحانه المتكفل بجمع القرآن وقرآنه وبيانه ثم يعود بعد ذلك للحديث مرة أخري عن يوم القيامة؟ علي طريقة الإعلام المرئي والمسموع حين يتم وقف بث الفيلم أو البرنامج فجأة لبث نبأ عاجل أو موجز لأهم الأنباء؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال المهم أود أن أترك فرصة للقارئ الكريم إلي الغد ليقوم بفتح المصحف ويقف عند سورة القيامة ليتلوها كاملة ثم يتفكر ويتدبر ليدرك ويلحظ مدي الفجاجة غير المبررة إن ظننا أن الآيات من (16:19) (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيانَهُ) تتحدث عن استعجال الرسول بالقرآن الكريم، وهل المقصود بالجمع فيها القرآن أم شيء آخر غير القرآن الكريم؟ (للحديث بقية)