الرهبنة عمل يبدأ بشعور الإنسان المتدين بالخوف من الله مما يجعله يأوي إلي الانعزال عن الدنيا ومفارقة شتي مظاهرها، و حين ينعزل الإنسان المتدين عن الدنيا يوهم نفسه بأنه قد امتلأ وجدانه بالحب الإلهي وأنه في معية الله وقربه ولا يحتاج لشيء ولا لأحد من الدنيا، فيترك كل شيء وراءه من شئونه وشئون ذويه، ويخدع نفسه بأنه قد وجد الراحة في قربه من الله وبغضه للحياة الدنيا. ومن مظاهر هذه الرهبنة أن بعض المتدينين يضعون لها طقوساً تعبدية ودينية معينة ككثرة تلاوة الكتب المقدسة كتحديد أجزاء كبيرة من القرآن الكريم لتلاوتها كل يوم، وكذلك إلزام أنفسهم بعدد كبير من الصلوات كقيام الليل وتطويل القيام والركوع والسجود فيها، وكثرة الصيام والتبتل والانقطاع عن ملاذ الحياة الدنيا وشهواتها. إن إلزام النفس وإجبارها علي ملازمة طريقة بعينها من الطقوس التعبدية وكذلك الشعور بالعزلة والنزوع نحو هدف يري فيه المتدين سمو نفسه وتطهرها لهو الرهبنة بعينها سواء التزم بهذا المسلم أو غير المسلم وسواء اعترض البعض علي التسمية أو حاول وضع مسميات أخري كالزهد في الدنيا للتحايل علي المضمون، والمشكلة ليست في الاسم ولا في كثرة العبادة ولا في كمها ولا في كيفيتها، إنما المشكلة الحقيقية تكمن في الدافع القابع خلف هذا الفكر الرهباني، إنه فكر يقوم علي كره الحياة والتحريض علي اعتزالها وانعزالها شعوريا وفعليا، واعتبار الحياة بكل مظاهرها عبارة عن مجموعة من الشرور والآثام والفساد، ولا يخفي علي أحد مدي انعكاس ذلك الفكر علي سير حركة الحياة واستمرارها والقيام بمتطلباتها وواجباتها ومواجهة صعابها، فالرهبنة أو الزهد في الدنيا هي عملية هروب من الحياة ترتدي ثوب التدين والإيمان بالله كي يعفي المتدين نفسه من مسئولياته الحياتية مخادعا نفسه بأنه يبحث عن حياة أفضل مع الله، وهو لا يدرك أن ما قام به هو قمة الأنانية التي لا يمكن أن يرضي الله عنها ولا عن فاعلها. هذا الفكر الانعزالي المزدري للحياة والكاره لها هو ما يقوم ببثه الإعلام الديني اليوم في أفكار الناس عبر شاشات القنوات الفضائية الدينية، هذا الفكر جاء نتيجة للفهم الخاطئ لكثير من النصوص الدينية التي تندد بإيثار بعض الناس حب الحياة وحب شهواتها والاغترار بمباهجها وزينتها وأموالها والاطمئنان بها، فظن كثير من فقهاء الدين ودعاته أن تلك النصوص تحرض علي النفور من الدنيا ومن التعايش فيها ومن كل مظاهرها والنظر إلي كل ما في الدنيا بعلو وازدراء واحتقار، لكن لم تكن أبدا تلك هي مقاصد الدين ولا أي من نصوصه، فالدين حينما نص علي التعالي علي الحياة وزينتها. وحين حذر منها وحرض علي اجتنابها والعزوف عنها كان يقصد من وراء ذلك التخلي عن كل المظاهر الدنيوية التي تجعل الإنسان يقصر أو يتراجع أو يتخاذل في أداء واجباته التي كلفه الله بأدائها وتحقيقها، كقيامه بالحق والعدل والقسط بين الناس ونصرة المظلوم ومواجهة الظالم وردعه ومنعه من ظلم الناس، وكذلك إعمار الأرض ونشر الخير والمعروف بين بني جنسه، وكذلك البعد عن كل الصفات المذمومة التي تسيء للفرد والمجتمع كالبخل والشح والأثرة والطمع وغيرها من الصفات التي نهي الله عنها وحذر منها وشنع علي من اتصف بواحدة منها، دون أدني قصد إلي انعزال الدنيا أو بغضها أو مجانبتها وتركها، وكذلك ما قصدت إليه النصوص الدينية من تحذير من الدنيا وعدم الاغترار بها أو الإقبال عليها كان بسبب المقايضة الجائرة التي تجعل الإنسان ينحرف عن الحق إلي الباطل، وعن العدل إلي الظلم، وعن الحرية إلي الاستبداد والقهر، وعن العطاء إلي الشح والبخل، تحت ضغط مغريات الحياة واستدراجها للإنسان في مقابل تنازله عن مبادئه وقيمه ومثله العليا التي خلقه الله من أجل تحقيقها في الأرض ونشرها بين الناس والدعوة إليها، فمظاهر الحياة الدنيا ليست منبوذة لذاتها ولا مكروهة لذاتها. إنما المكروه لذاته ضعف الإنسان وتخاذله وتقاعسه عن مواجهة الشرور ومواجهة الفساد، والمكروه لذاته هو ضعف وتخاذله وتراجعه حين تعرض عليه مغريات الحياة الدنيا فيستسلم لها ويتنازل من أجلها عن مهامه السامية وقيمه العليا، هذا هو المقصد الفعلي والحقيقي للنصوص الدينية التي تحذر من الحياة الدنيا وزينتها وغرورها، وكذلك ليس مقصد النصوص الدينية أن يعتزل الإنسان المتدين الحياة وينعزل ويتقوقع داخل ذاته هربا وخوفا من الدنيا أن تجرجره إليها، بل عليه أن يواجه الدنيا ويقاوم مغرياتها وزينتها وبريقها ويتعالي علي كل ذلك في قوة واقتدار ومواجهة وصمود، وليس أن يهرب ويتخفي ويؤثر السلامة، فهروب الإنسان من الحياة إلي الزهد أو الرهبنة هو هروب من الله وهروب من القيام بتكاليفه ومهامه التي أوكل الله إليه القيام بها وتحقيقها. إن الخطير والمفزع فيما يبثه الإعلام الديني الآن هو تعبئة وعي الجماهير وتعبئة قناعاتهم بأفكار تدعو للرهبنة والزهد في الدنيا والانقطاع عنها للعبادة وفي الوقت ذاته الجماهير غير قادرة علي اعتزال الحياة والانقطاع عنها لظروف عيشهم القاسية التي تحول بينهم وبين تحقيق ذلك، فينعكس ذلك علي سلوكياتهم أثناء انخراطهم في الحياة فيجعلهم يعاملون بعضهم بعضا ببؤس وازدراء وبغض وتنابز، وينظرون إلي كل شيء بعين الريبة والتوجس والاتهام، ويفقدون الثقة في كل شيء ويسخرون من كل شيء، وكل من حولهم متهمون لأنهم منغمسون في الدنيا، ولا عجب فهذه هي النتيجة الحتمية والإفراز الطبيعي لما يبثه الإعلام الديني في وعي الناس من تحريض علي بغض الحياة وانعزالها بدعوي القرب من الله. (للحديث بقية)