يبدو أن الأحداث أصبحت أسرع من لوحة المفاتيح، قبل أن أنشر ما كتبته عن الناقد فاروق عبد القادر، رحل الشاعر عفيفي مطر، وكأن جيلا كاملا يلوح لنا بيده من بعيد وهو يقول لنا وداعا "شدوا حيلكم في هذه الأيام الصعبة"، وبعد ساعات يدخل الروائي الكبير جمال الغيطاني غرفة العناية المركزة إثر ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم لايخلو من أسباب ثقافية وسياسية، تتعلق بالقلق علي مصير النيل، والخوف العام علي مستقبل البلاد والعباد، فيرحل من يرحل، ويرقد علي فراش المرض من يرقد، ولاتبقي لنا إلا الجنازات، والحديث عن أسباب الموت، ووقائع أيام المرض وذكريات اللقاءات الأخيرة. في جنازة الناقد الكبير فاروق عبد القادر، لم يحضر سوي خمسة مثقفين فقط، لا مندوب عن وزارة الثقافة، ولا إعلاميين، ولا مبدعين في الأدب والمسرح ممن امتلأت بهم كتب عبد القادر، وفي العزاء تكرر الهجر والنكران، وأعلن الوسط عن جحوده لقيم الزمالة والتآلف. قبل ساعات من هذا المشهد المحزن فاز عبد القادر بجائزة التفوق، وكان قد دخل في حالة غيبوبة منذ ثلاثة شهور، فلم يعلم، ولم نعرف موقفه من ذلك، لأنه رحل من دون أن يعرف، ولم يقل له أحد أنه تم ترشيحه، كل ما هنالك أن الدكتور جابر عصفور الأمين السابق للمجلس الأعلي للثقافة كان قد انتقد عدم حصول فاروق عبد القادر علي جائزة الدولة، وسنحت الفرصة هذا العام ليحصل الناقد الكبير علي الجائزة بنفس الطريقة والأسلوب الذي فاز بها من قبله "اليوسفين اللدودين" إدريس وشاهين، وهما علي فراش المرض. في السنوات الأخيرة اقتربت من عالم فاروق عبد القادر، وعرفت أنه عاش حياة حافلة بمعارك نقدية شرسة لم يتنازل فيها عن مواقفه، واختار طائعا أن يدفع ثمن هذه المواقف الراديكالية الحادة، دفع الثمن بتحمله لخصومات مرهقة، وفقدانه فرصة التعيين في أي مؤسسة حكومية بعد إغلاق مجلة "الطليعة" التي عمل بها مع الراحل لطفي الخولي، وحرمان من الجوائز، ومقاطعة غير معلنة من جانب وسائل الإعلام. وذات مرة سألته عن ذلك فقال لي: لم يحدث، لم يفرض علي أي شخص أو أي جهة أي حصار من أي نوع، أنا الذي فعلت ذلك باختياري وإرادتي، لكي أظل حرا مستقلا، وسألته ايضا: هل أنت إنسان متمرد، أم أن الموضوع كله ليس إلا سوء تفاهم بينك وبين المجتمع الذي تعيش فيه؟، ونظر إلي الناقد الكبير ولم يجب عن السؤال، واستكملنا حوارا قديما لم أنشره حينها، ورأيت أن أعده للنشر الآن، فقد كان السؤال يراودني، ويذكرني بالحوار، وكنت في كل مرة أقول لنفسي، سأنتظر عندما يحين الوقت لأعيد السؤال عليه مرة أخري، وأستكمل الحوار كما أريد، وليس كما أتاحت ظروف جلستنا علي مقهي "سوق الحميدية" حينذاك. في محاولتي للبحث بنفسي عن حالة فاروق عبد القادر، قال لي أحد مثقفي جيله: إنه ناقد يساري ومترجم اهتم بالمسرح باعتباره فنا جادا، ورأي أنه يمكنه ردم الهوة بين الفن الجاد من جانب والقراء من جانب آخر، وفي سبيل ذلك دخل عشرات المعارك مع مثقفين ومسئولين عن الثقافة، لكنه لم يتراجع أبدا عن مواقفه العنيدة، وفسر لي آخر بأن هذه الروح القتالية لدي عبد القادر، دفعته في شبابه للانضمام للفدائيين ضد الاحتلال في قناة السويس، وحمل السلاح فعلا، بل أصبح مدربا عسكريا لوحدة من الفلاحين، وأشار ثالث إلي عضوية عبد القادر في الحزب الشيوعي المصري لفترة حاول خلالها أن يركز في تثقيف الأعضاء أكثر من اهتمامه بالنضال الحركي والأداء التنظيمي. بالأمس ذهبت إلي "سوق الحميدية" في محاولة للبحث عن مزيد من الإجابات، لم أجد المقهي التي كانت تكتظ بالرواد من مختلف الأعمار، لم أجد تلك المناقشات وذلك الصخب، لم يكن هناك إلا بضعة أفراد يجلسون مع عدد من الأجانب، كان هناك دخان الشيشة والسجائر، والكراسي المتناثرة، لكن فاروق عبد القادر لم يكن هناك وسط صحبته، مر أكثر من أحد، ولم يجلس فاروق عبد القادر علي مائدته في ركنه الخاص، وسيمر أحد وآحاد أخري كثيرة، ولن يذهب عبد القادر إلي "سوق الحميدية"، وهو الذي أخذ علي نفسه عهدا ألا يتخلف يوما عن موعده.. لقد قال لي ذلك قبل سنوات في أول لقاء بيننا، كنت متحمسا للقائه فذهبت قبل الموعد بنصف ساعة، ومع ذلك وجدت "سوق الحميدية" تتأهب لجلسة فاروق عبد القادر، الجرسون يجهز الركن الخاص لاستقبال الندوة الأسبوعية للأستاذ فاروق وأصدقائه، مقر الندوة عبارة عن "ترابيزة" مستطيلة بجوار الحائط في نهاية المقهي الضيق الذي يتخذ من الشارع امتدادا طبيعيا له، وجرسون المقهي ينبه الزبائن الغرباء أن هذا المكان محجوز، وقبل السابعة مساء ً بدقائق قال لي نفس العبارة " المكان محجوز"، فقلت له عندي موعد مع الأستاذ فاروق، فرحب بي حتي جاء الأستاذ وعرفته بنفسي، وأنا أقول له مداعبا: يعني كان لازم القهوة؟.. هنعرف نتكلم هنا؟، فقال: "المقاهي عادة تسمح بما لا تسمح به البيوت، كأن يجتمع 5 أو 8 أشخاص، دون موعد مسبق، وفي هذه "القعدة" تقريبا تجد كل أشكال الحياة من بيع وشراء ومساومة وقضاء وقت ممتع ولعب طاولة، وثقافة أيضا". بالنسبة لفاروق عبد القادر الذي عاش حرا غير مرتبط بوظيفة ثابتة كانت "القهوة" مناسبة تماما لتلبية بعض الاحتياجات الاجتماعية: "أنا لفترات طويلة من حياتي أعمل ككاتب حر، فليس عندي وظيفة أو "شغلانة" إلا كتابتي، وبالتالي ليس لدي مكان عمل أو مكتب أستقبل فيه الأصدقاء، وهكذا أصبح للمقاهي دور كبير في حياتي، وأغلب الناس القريبة مني يعرفون أنني أتواجد هنا كل يوم أحد، طالما أنا موجود في القاهرة، وهذا يجعل أصدقائي ممن يريدون مقابلتي يحضرون إلي هنا بلا أي ترتيب مسبق". قلت له: ألا تضيع المقاهي وقت الكاتب، وتصرفه عن الإبداع إلي الثرثرة العامة والمناقشات الشفوية؟ قال: القهوة تعلب دورا مهما في حياة الكتّاب، وأعتقد أن أهمية هذا الدور لاتقتصر علي مصر فقط، ولكن في أماكن كثيرة من العالم، خاصة الدول الفقيرة، حيث لا يتوفر للكاتب إمكانيات الحياة المرفهة، لأن الكتابة نفسها تكون سلعة رخيصة الثمن، ولهذا يلجأ الكتّاب للقهوة ليمارسوا فيها ما لا يستطيعون أن يمارسوه في بيوتهم، الكلام في كل الموضوعات المقترحة، واللقاء بعدد كبير من الأصدقاء وغير الأصدقاء من هواة الثقافة والأدب، والاحتكاك بالناس ومعرفة أحوال المعيشة، لكن أشعر أن كلامك به قدر من الوجاهة علي المستوي الثقافي، لأن المقاهي لا تصنع المثقفين، ومن يظن غير ذلك فهو واهم، لأن اكتساب الثقافة له طريق واحد محدد ومعروف، وهو القراءة، والقراءة هي نشاط يمارسه كل إنسان بشكل فردي، ولا يجدي كثيرا علي المقهي، وكذلك الكتابة عمل فردي يجب أن يقوم به الإنسان في ظروف مهيأة ومناسبة بعيدا عن "زيطة" المقاهي، أما الحديث عن إمكانية العمل الثقافي في كل وقت وأي مكان، فهذه خرافة روّج لها بعض المثقفين، حتي صدقوا قصة الإمبراطور الروماني الذي كان يؤلف ويترجم الكتب أثناء المعارك. لم يكتف عبد القادر بذلك، بل نفي أن يكون للقهوة دور في تكوين الجماعات الأدبية، وقال:"فكرة أن المقهي كانت الأساس في تشكيل الجماعات الأدبية وغيرها من الأنشطة غيرة صحيحة، فهذه الأشياء لا تأتي عن عمد، ولا عن ترتيب، إنما تأتي "كده" بالمصادفة، أما أن يكون هناك ترتيب وقتها الأمر يختلف، وعندها لا تكون القهوة قهوة بالمفهوم الذي نعرفه، والتي بها اللقاء شبه العفوي والتلقائي، والذي ليس به حاجة محددة أو حاجة ممنوعة، أما إذا قلت أننا اليوم سوف نتحدث عن كتاب أو عن الشخص الفلاني، فتختلف المسألة وتصبح ندوة، أو أن تطلق عليها أي شيء آخر بعيدا عن القهوة. سألته: ولماذا تقيم ندوتك الأسبوعية علي المقهي إذن؟ فأجاب: هذه ليست ندوة بالمعني المعروف.. أعتقد أن الندوة لها شروط تنظيمية أخري كما قلت، فمن المفترض أنها تنتمي إلي جمعية أو مؤسسة، لكن هذه الجلسة بدأت بالمصادفة، فهذه "القهوة" مثلها مثل كل المقاهي التي حولها، وليس لها ميزة ثقافية خاصة، كل ما هناك أنها كانت قريبة من الإذاعة (قبل إنشاء التليفزيون عام 1960)، وكانت تستهوي المتعاملين مع الإذاعة، وكان يجلس عليها نعمان عاشور (1918 - 1987) في جلسة أسبوعية يوم الأحد أيضا، وكنت من رواد هذه الجلسة لأني أحبه، وبعد أن رحل نعمان، تسلم الجلسة الناقد الراحل فؤاد دوارة (1928-1996)، ثم جاء الدور علي أنا بالصدفة، ونحن حتي اليوم لازلنا نجتمع، والصدفة التي أسست هذه الجلسة تحولت إلي ما يشبه دستور لنا، فهي أيضا التي تحدد موضوع المناقشة، فلا نعلن عن برامج أو موضوعات معدة سلفا للمناقشات، مرة نناقش الكتب الجديدة التي صدرت، ومرة نناقش العروض التي تقدمها المسارح، ومرة موضوعات وشئون ثقافية عامة أو متعلقة بالفنون، لكننا في كل الأحوال نحرص علي أن تكون جلستنا أكثر حرية، ولا نعترف فيها بقيود من أي نوع. بقي سؤال لم أسأله للناقد الكبير عن مصير هذه الجلسة بعده، وهل تستطيع الصدفة أن تحافظ علي هذا التقليد الذي بدأه في الخمسينيات المبدع المسرحي الكبير نعمان عاشور صاحب "الجيل الطالع"، و"عيلة الدوغري".. السؤال سيظل معلقا في رقبة رواد ندوة الأحد، ورقبة الحركة الثقافية كلها، فمن يجيب؟