اترك همومك علي مقعد الحلاق ! حلاق القرية (2-2) وكان يكمل هذا المشهد الفولكلوري الذي كان يجذبني في هذه السن المبكرة بعيداً حتي عن حياة القرية وتمتطاء الحمار وركوب "النورج" واللعب بالكرة البالون ،كان يشدني منظر "الأجر" أي المقابل الذي كان يحصل عليه الحلاق ، وكان مشاعاً لرؤية المارة ، فقد كان إلي جواره سلة من الخوص تمتلئ - ليس إلي درجة الوفرة - ببعض كيزان الذرة الأخضر ، والبيض البلدي الذي لا يزيد حجم الواحدة علي حجم الليمونة المتوسطة ، وبعض الغلال في مواسم الحصاد.. الجذور أذكر واعذروا لي هذا الاستطراد ، فالذكريات حميمة ،متدفقة كشلال انطلق من ساقية ، أقل حركة تديره ، وأقل دوران له يروي الأرض العطشة ، وتنبت عنه أفكار وذكريات خضراء بها طعم الخير ،ونقاء الأصالة ،وعمق الجذور .. أمان الطيبين أذكر انني استسلمت مرة لموسي حلاق القرية ، ولكنه لم يكن الحلاق الذي يفترش الأرض ، بل كان له "دكاناً" له باب عريض جداً ، عتيق جداً من الخشب ، يغلق عن طريق لوح من الخشب يأتي من أعلي اليمين ليهبط إلي أسفل يسار الضلفة اليسري .. بس .. هذا هو كل عوامل الأمان في قري كانت تتمتع بكامل الأمن والأمان . استسلمت لحلاق القرية بعد أن شددت عليه أمي ألا يحلق "زيرو" ، حتي لا يضحك علي أولاد مصر ، وبدأ الرجل في عمله حتي كاد ينتهي ، وكان عليه أن يساوي السوالف ، فأراد أن يسن الموسي ، ورأيته محتارأً ، حتي اكتشفت أن الزبون عليه أن يمسك الجلدة ويشد ، حتي يسن الحلاق الموسي، وأمام التوصية الزائدة علي الزبون الذي هو أنا ، فما كان من الحلاق إلا أن استدعي طفلاً صغيرًا من أبناء القرية ليساعده ، فلم يكن هناك ما يسمي ب «صبي» الحلاق، فالحلاق يفتح المحل وينظفه ، ويشحن العدة بمساعدة الزبون ، ويأخذ اللي فيه النصيب، ثم يغلق بالضبة دون المفتاح ويروح ! أتذكر جيداً ان حلاق القرية الذي جلست أمامه جمع في أثناء حلاقته لي أكبر كم من المعلومات عن مصر وناس مصر ، عن المنطقة التي أسكنها ، وعن "الشراقوة" الذين يسكنون معنا .. بل وعن مدرستي وماذا ترتدي مدرسات مصر .... أشياء كثيرة فسرتها علي أنها فضول من قروي تجاه زبون متميز جاء من مصر أم الدنيا ، بلد الكباب والكفتة ع السيخ كما قيل لي! ولم أكن حتي هذا التاريخ قد ذقت الكباب ، ولكن يادوب شممت رائحة الكفتة ع السيخ ،وشاهدت الكبابجي علي ناصية شارعنا و هو يعجنها ويحيطها بالسيخ مبللة بماء البصل والتوابل . أي أن ما حسدني عليه حلاق القرية كان محض خيال!! ومرت سنوات .. تقلبت فيها علي عدة حلاقين ، ولم يكن لي ملاحظة عليهم جميعاً سوي أن الاتهام الموجه لمن يمتهن مهنة الحلاق من كونه كثير الكلام ، ينطبق علي معظم أبناء هذه المهنة ، وإن كنت وجدت لها عائدًا إيجابيا هي أن معظم الحلاقين متكلمين جيدين ، وعلي درجة مقبولة جداً من الإلمام بمعارف وخبرات كثيرة، لدرجة أن بعضهم يتكلم في أمور فنية جداً ، وكثيراً ما تثبت الأيام أنهم يقولون الصواب ! وهذا طبعاً يعود إلي حواراتهم الممتدة مع زبائن من أهل العلم والخبرة . أما الاكتشاف فهو أنني لاحظت أن غالبية الزبائن يحبون التحدث حتي عن أعمالهم ومتاعبهم ومشكلاتهم مع حلاقيهم! وزاد من دهشتي عندما كنت أشاهد فيلماً أمريكياً ووجدت بطله الذي لا يحضرني اسمه ، ولا اسم العمل ، يقول حكمة توقفت أمامها كثيراً وهي أنه عندما يضيق الرجل بالمشكلات ، فإنه عليه أن يتوجه إلي أحد اثنين: صديقته (وهي كلمة مخففة لما جاءت بالفيلم الذي وصفها بالعشيقة) ،أو حلاقه الخاص . والأمر يحتاج إلي خبير نفسي واجتماعي، من الطراز الممتاز ليحلل تلك الظاهرة فالمثل أو الحكمة تجاهلت الزوجة ،والأخوة والزملاء ، وحددت فقط الصديقة والحلاق!