عدد ملموس من المحامين كانوا فيما سبق مستشارين في القضاء.. تقاعدوا وتحولوا إلي مهنة المحاماة.. كما أن عدداً ملموساً من ضباط الشرطة تقاعدوا في وقت مبكر أو حين حل سن التقاعد.. وأصبحوا أيضا محامين.. وعليه لا يمكن لبعض المحامين أن يدعوا علي القضاء أنه تعسكر حين التحق به ضباط سابقون بالشرطة.. وإلا فإن المحاماة تكون بدورها قد تعسكرت.. ولا شك أن قطاعاً مهولاً في المحامين كان يريد أن يلتحق بسلك القضاء لكنه لم يوفق. وفي طريقة توزيع الأدوار بين أطراف العملية القضائية فإن المحامي يدافع عن المتهم.. والنيابة التي تمثل الشعب تنوب عن المجتمع في الاتهام.. والقضاء يحكم بين وجهتي النظر لتطبيق العدل.. والجميع يدافع عن تطبيق القانون.. كل بطريقته.. وانطلاقاً من شرعية مهمته. ويوصف المحامون بأنهم (القضاء الواقف)، وبينما ينص القانون استنادا للدستور علي أنه لا محاكمة لمتهم بدون أن يدافع عنه محام، وتكون مهمة القاضي أن ينتدب محامياً لو لم يكن لديه من يدافع عنه، فإن المحاماة والقضاء يوصفان بأنهما (جناحا العدالة) أي لا يمكن أن يطير العدل بدونهما، ولا يمكن أن يتنازع الجناحان.. إذا حدث هذا يسقط الطائر. لقد فزع المجتمع خلال الأسبوعين الماضيين وهو يري أن هناك صراعا بين جناحي العدالة.. وتحول الأمر إلي تنابز.. وتعطلت محاكمات بسبب إضراب المحامين وتخليهم عن المسئولية الموكولة إليهم من موكليهم.. دافعي أجورهم.. بل تجاوز بعض المحامين في ممارسة حق الإضراب بأن منعوا القضاة من دخول قاعات العدل.. ومزقوا (رول) القضايا.. وهذه أمور تخالف أصول العلاقة بين القاضي والمحامي.. وتناقض حماية هيبة القاضي.. ولا علاقة لها بقواعد الإضراب التي لابد أن تقتصر علي إثبات حالة الإضراب في محضر الجلسة وانتهي الأمر.. بل وتتخطي حدود اللياقة. وقد يري البعض أن امتناع المحامين يعفي مسار القضايا من تطويلات زمنية ناتجة عن طلبات متكررة تبدو أحياناً لا ضرورة لها.. وإن كنت أختلف مع هذا الرأي علي أساس أن من حق المحامي أن يحصل علي كل ما يتيحه له قانون المرافعات.. ولو كان استنزافا للوقت.. فإن ثبت كان للقاضي ما يراه. إن من المؤسف أن تتعرقل العدالة يوما وراء آخر، بسبب هذه الأزمة.. والموقف متتالي الفصول لابد أنه يعطي انطباعا لدي المواطنين بأن أحدا لا يهتم بمصالحهم.. علما بأن القضاة يذهبون كل يوم إلي المحاكم.. وسوف أتخلي عن تحفظي وأوجه الانتقاد إلي المحامين الذين يجب عليهم وهم يسعون إلي إثبات ما يعتقدون أنه حقهم أن ينتبهوا إلي الانطباعات المترسخة لدي الرأي العام بشأن مصالح الناس.. تلك التي تتراكم بينما عدد من المحامين يصرون علي مواقف مناقضة للعرف والقانون. ورغم أني أتعمد ألا أعلق علي حكم قضائي، إلا أنه يجب أن أعترف أنني فزعت حين صدر الحكم الابتدائي بحبس المحاميين المتهمين في واقعة الاعتداء علي وكيل النيابة بخمس سنوات في جلسة واحدة.. لكن هذا الفزع لا ينفي أن هناك استئنافاً يتم اللجوء إليه.. وأن هناك نصوصاً في القانون يجب أن يتم إعلاؤها.. وطلبات وشهوداً لابد أن يجاب طالبوها وهو ما بدا في الجلسة الأولي للاستئناف.. والأهم أن هناك واقعة معروفة التفاصيل.. المتهم فيها معروف والمعتدي عليه - أيا ما كان السبب - معروف أيضا. لقد قلت في بداية هذا الموقف إننا في دولة تعمل فيها مؤسسات لا قبائل، وأن علي كل مؤسسة أن تطبق القانون والأعراف، لا أن تعود إلي حالة القبيلة في عصور ما قبل الدولة، غير أن الضغوط الانتخابية والتنافسات السياسية تدفع نقابة المحامين إلي تنازعات تفتت وحدة موقفها.. وتؤثر علي تصرفاتها.. وتستدعي انطباعات لن تكون في صالح المحاماة.. وهي مهنة سامية نعتز بها.. ويفترض بالنقابة أنها تدافع عن مصالح المهنة لا مكانات الأشخاص وطموحاتهم. والأزمة الحالية تفرض علي العقلاء أن يقوموا بما ينبغي، وأن يترفعوا عن المصالح الشخصية، وأن يتجاوزوا عن المزايدات التي تقود الموقف إلي مزيد من التأزم.. ومن ثم فإننا ندعو المحامين إلي أن يخلصوا الموقف من كل تبعاته العالقة.. الشخصية والسياسية والقبلية.. وأن ينظروا إلي الموقف مجردا باعتباره مجرد قضية.. يريد المحامون أن يكسبوا الدفاع فيها.. وهذا لن يتحقق إلا من خلال القانون.. ولا أعتقد أن الإضرابات الصاخبة يمكن أن تؤثر علي القانون.. بل إن القاضي قد لا يمكنه أن يصل إلي حكم محدد بينما تدق الطبول إلي جانب رأسه محاولة أن تضغط عليه.. كيف نتوقع حكماً ينهي الموقف إذا دخل نقيب المحامين في الاستئناف ليشكك في اعتذار المتهمين .. بعد أن أرسلا باعتذار مكتوب . إنه يتحمل المسئولية. لنفرض أنها قضية تعد.. مجرد ملف.. لا علاقة له بالمحاماة أو القضاة.. وليتم التعامل معها علي هذا الأساس.. وليحتشد المحامون دفاعا عن زميليهما في هيئة دفاع قانونية.. وليس في هيئة دفاع سياسية.. وليمض الأمر في مساره القانوني.. كما يجري في عشرات القضايا المماثلة. إن للقضاء هيبته.. وللنيابة حصانتها.. ولا يمكن لأحد بالطبع أن يقبل التعدي علي وكيل النيابة أثناء ممارسة عمله أو علي محام عام بحصاره في مكتبه.. كيف له أن يتخذ قرارا فيما بعد.. هو أو أي من زملائه.. هذا الضغط ضد مبادئ استقلاله.. كما أنه لا يمكن لأحد أن يقبل معاملة غير لائقة لمحام.. فهو ليس عبدا.. وهذه الأمور تحددها القوانين ولهذا شرعت.. وحين تم وضعها لم يكن أحد يضع في اعتباره أن هناك مزايدات سوف تخلقها التنافسات الشخصية بين زملاء مهنة واحدة. [email protected] www.abkamal.net