كثيرا ما تناقشني ابنتي الصغيرة في أمور فلسفية عميقة المعني، وما يدهشني حقا هو قدرة هذا الجيل الجديد علي رؤية الأمور من منظور بعيد ودقيق.. وكانت مناقشتنا اليوم عن محاولة إجابة السؤال: (هل تحبين أن تعيشي في حياة بدون ألوان؟).. بالطبع لا تستطيع ابنتي الحياة بدون ألوانها أقصد أقلام الألوان وألوان الجواش وبالتالي تميزت إجابتها بالبساطة والوضوح والحسم: (ماما! الحياة بدون ألوان مستحيلة.. إنها واحدة من مخاوفي الخمس الكبري.. One of my five major fears! ولكنني لم أقتنع بالإجابة.. فالألوان هي الخديعة الكبري، فنحن نلون كل شيء لا ليبدو أجمل فحسب، بل لنغير حقيقته.. وكثير من الألوان أكاذيب.. صبغات الشعر أكاذيب ومساحيق التجميل مثلها.. والناس تلون الحقائق فتقلبها.. وتلون الكلام فتجعله مقبولا ومعسولا.. حتي الفواكه نلونها لنظهرها أجمل، وهي ليست لذيذة ولا طيبة.. صمتت ابنتي مع نظرة عبوس وتأمل وكأنني بها تقلب الكلمات في رأسها الصغير الكبير.. ولما لم تقل شيئا ورمقتني بنظرة مشجعة، رحت أكمل عرض منطقي. قلت: إن الحياة البسيطة بالأبيض والأسود، دون ألوان أفضل بكثير.. لم تضف الألوان كثيرا للصور القديمة بالأبيض والأسود.. علي العكس كانت الصور القديمة رائعة، والأفلام القديمة غاية في الجمال.. الحياة كانت أكثر بساطة وأقل ألوانا.. إذا أصبحت الحياة بدون ألوان، سنقول الحقيقة، الأبيض أبيض والأسود أسود.. الحق حق، والباطل باطل. إذا تحولت الحياة إلي الأبيض والأسود فقط، لن نزيف مشاعرنا، ولن نكذب ولن نتجمل.. شعورنا البيضاء ستظهر حقيقة أعمارنا، وملابسنا ستتفق مع أمزجتنا ومشاعرنا.. أحبارنا السوداء علي الأوراق البيضاء ستعكس كلمات أمينة واضحة لا تلونها المغالطات ولا المجاملات.. لن يختلط النور الأبيض مع الظلام الأسود، وسيتضح النهار من الليل.. بل سيسود العالم وضوح يضمنه هذا التضاد الحاسم. قالت: ولكن الطبيعة ستغضب.. بدون الألوان لن نعرف الأخضر من الأصفر.. وستشبه الصحراء الأراضي المزروعة.. لن نميز بين زرقة البحر وزرقة السماء.. ألوان الزهور ستختلط ولن تعرف الحشرات إلي أين تذهب.. الطيور لن تتعرف علي الأشجار ولن يكون لريشها منظر.. أما الأسماك فستغضب كثيرا.. فستصبح الأسماك الملونة أسماكا بالأبيض والأسود، وتفقد تميزها.. والفراشات مثلها. قلت: ولكننا لا نريد أن نميز الناس بناء علي ألوانها.. فالأبيض والأصفر والأسود وكل الأجناس بشر متساوون مهما اختلفت ألوانهم.. ولا يصح أن نتعامل معهم بناء علي ألوانهم. قالت: معني هذا أن الحياة بدون ألوان ينبغي أن تصير شفافة.. أي حتي الأبيض والأسود باعتبارهما لونين ينبغي أن نستبعدهما.. وتصير الحياة شفافة.. لحظة واحدة.. واختفت ابنتي قليلا وعادت ومعها ساعة يد من ساعات الأطفال الشفافة التي تظهر تروسها الداخلية تدور في غلاف شفاف يظهرها بوضوح.. وقالت لي: هكذا تكون الحياة بدون ألوان.. حياة لا توجد فيها سوي الشفافية. ولما رأيت الساعة وكل ما بداخلها ظاهراً جلياً، إذا تعطل ترس سنراه، وإذا كسر آخر سيسهل تمييزه، رأيت أن الحياة بدون ألوان صعبة جدا جدا، بل مستحيلة.. فأثنيت علي عبقرية ابنتي، وآرائها الصحيحة، ووعدتها بعلبة ألوان جديدة.