في كثير من الأحيان تكون المواقف واضحة تمام الوضوح أمام الإنسان، وتكون الأمور محددة تمام التحديد، غير أن المرء لا يستطيع أن يتبين ذلك، وقد يرجع ذلك لغشاوة في القلب، أو لحجاب علي العقل، أو لمرض في النفس.. وقد يكون لكل هذه الأسباب مجتمعة.. وتلك هي الطامة الكبري. في سورة البقرة، توضيح رائع لهذه الفكرة، في حوار النبي موسي (علي نبينا وعليه السلام) مع بني إسرائيل.. فقد قُتل منهم رجل، وذهبوا إلي النبي موسي سائلين النصيحة والمعرفة بمن قتل هذا الرجل؟ فأجابهم موسي، بوحي من الله، الذي لا تحتاج قدرته إلي دلائل ولكنه يسبب الأسباب، قال لهم موسي: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، وجاءت البقرة نكرة، حتي يمكن ذبح أي بقرة.. الموضوع في جوهره بسيط، مجرد تحقق الأسباب، غير أن بني إسرائيل لم يروا الموضوع علي هذا النحو.. لابد من وجود مواصفات، أو أن القصة بأكملها مجرد تهزيء لهم "أتتخذنا هزوا".. "قالوا ادعوا لنا ربك يبين لنا ما هي؟".. وهنا تبدأ الدائرة المتسعة تضيق، وهنا يبدأ السهل يتحول إلي صعب.. وما كان أجدرهم بعدم السؤال لو كانوا يتبينون الحقيقة" لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". ويشير الشيخ الشعراوي في خواطره الإيمانية إلي هذه القصة ويذكر أنه "قد استمر الحوار بينهم وبين موسي فترة طويلة.. يوجهون السؤال لموسي فيدعو الله فيأتيه الجواب من الله تبارك وتعالي.. فبدلاً من أن ينفذوا الأمر وتنتهي المسألة يوجهون سؤالاً آخر.. فيدعو موسي فيأتيه الجواب، ويؤدي الجواب إلي سؤال آخر في غير محله منهم.. ثم يقطع الحق سبحانه وتعالي عليهم أسباب الجدل.. بأن يعطيهم أوصافاً لبقرة لا تنطبق إلا علي بقرة واحدة فقط.. فكأنهم شددوا علي أنفسهم فشدد الله عليهم"! و"رغم أن ما قيل لبني إسرائيل واضح تمام الوضوح عن البقرة، وعمرها، وشكلها ولونها ومنظرها.. فإن الله سبحانه وتعالي أراد أن يؤدبهم فجعلهم ينظرون إلي البقر، وهذا يقول هذه هي، والآخر يقول لا بل هي في مكان كذا.. والثالث يقول لا بل في موقع كذا.. وعادوا إلي موسي يسألونه أن يعود إلي ربه ليبين لهم البقرة "إن البقر تشابه علينا".. وهنا ذكروا الله الذي نسوه، ولم ينفذوا أمره منذ أن قال لهم اذبحوا بقرة، ثم قال لهم "افعلوا ما تؤمرون".. فطلبوا منه الهداية بعد أن تاهوا وضاعوا بسبب عنادهم وجدلهم.. وجاء الجواب من الله سبحانه وتعالي.." جاء في الأثر "إذا غضب الله علي قوم أكثر جدالهم، وأقل أعمالهم".. إذا غضب الله علي قوم جعلهم يرون الشيء الواضح غامضاً، والطريق المستقيم معوجاً، وجعل الأشياء المختلفة تماماً تبدو لهم أشياء متشابهة لا يمكن التفريق بينها "إن البقر تشابه علينا".. ونعوذ بالله أن نكون من هؤلاء علي كثرتهم في مجالات حياتنا المختلفة.