.. رحل عن دنيانا مؤخراً حبيب آخر سافر إلي عالم السعادة والهدوء إنه الدكتور عامر علي عامر الرجل الأكثر اهتماماً بمسرح الطفل في جيل السبعينيات وحتي الآن في مصر. وهو الشخص الذي فقدته الحياة المسرحية الأكاديمية كثيراً فقد كان رحمه الله واحداً من آباء جيله والأجيال التي تلته. فقد كانت الحياة المسرحية والثقافية والفنية في مصر تحتفل برجال مثله تحركهم نوازع التطوع نحو البناء ومساعدة الموهوبين والدفع بهم لمجالات وآفاق جديدة. كانوا مثل الشجر العفي الثابت نطير حولهم كعصافير من شجرة لأخري لا يكاد عامر علي عامر أن يري في أحد العاملين بالمسرح ميلاً خاصاً للصفاء الإنساني إلا واجتذبه فوراً للعمل بمسرح الأطفال فقد بدأ اهتماماً مبكراً به منذ تخرجه في المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 1980 وحتي حصل علي الدكتوراة في فلسفة المسرح من كلية الآداب بجامعة الأوتونوما بمدريد بإسبانيا بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولي ثم عاد ليواصل مشروعه العلمي والإبداعي الذي كان قد بدأه قبل سفره، كان مولعاً بالهامش حيث مسرح الفقراء في الثقافة الجماهيرية بل وكان يفخر بعروضه التي قدمها في مدرسة الجيزة الثانوية أكثر من عروضه التي قدمها علي المسرح القومي ومسرح البالون بالقاهرة ومسرح محمد عبدالوهاب بالإسكندرية كان رحمه الله يحب العمل مع زملاء المهنة من أهل المسرح أكثر من رغبته في العمل مع النجوم. وكان يحب العمل مع الأطفال أكثر من العمل مع الكبار وهو الأمر الذي يفسر ميله لعالم أكثر عدالة وبراءة ووضوحاً وهو العالم الذي رحل إليه كان د. عامر علي عامر قد ساهم الدفع بمسرح الأطفال خاصة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي نحو التنشئة الاجتماعية والسياسية للطفل المصري ملتقطاً الخيط من الشاعر الكبير شوقي خميس عندما اهتم بتقديم القائل نعم القائل لا وهي أوبرا مدرسية للكاتب الملحمي الأشهر برتولدبريخت فقد كانت شخصية الأسد عند عامر علي عامر رمزاً للقوة الغاشمة لا رمزاً للنبل والعدل كما تعارف عليها الجميع في مسرح الأطفال. بل واهتم بتأصيل قيمة العطاء ودعم المسحوقين والفقراء فقد كان يهدف لتربية الأطفال علي فكرة احترام الفقراء خاصة الأذكياء منهم بل وكان يدعم فكرة الحب بين الفتي والفتاة كمشروع للزواج وللسعادة الأسرية وكانت مغامرته الفكرية في مسرحه تحكمها دائماً حبكة بسيطة مع بناء درامي سلسل يعتمد علي تتابع الحكاية القائمة علي المنطق السببي. أما دوره كمعلم ومنشط ثقافي فاعل في ذلك الإطار فقد كان دوراً واضحاً نفتقده الآن فقد آمن بضرورة وأهمية مسرح الأطفال ودعا إليه كما يدعو دعاة التنوير لكل ما آمنوا به. وقد رحل رحمه الله وفي قلبه غصة مما آل إليه حال مسرح الطفل في مصر حيث تقلد غير المتخصصين في كل أنحاء وزارة الثقافة مواقع إنتاجة مثل د.عاطف عوض مصمم الاستعراضات في القومي للأطفال ومحمد الصاوي الممثل الكوميدي في فرقة تحت 18 بالقطاع الاستعراضي مع صمت تام لمسرح الأطفال بالهيئة العامة لقصور الثقافة بعد خروج فاطمة المعدول منها. إنها مصادفة غريبة كان يرددها لي كثيراً ليسأل نفسه الآن وهو في عالم الراحة: لماذا لا يمكنون أصحاب الاختصاص؟ لماذا لا يتم السماح لأصحاب المشروعات الخاصة والذين منحوها عمرهم كله فرصة إكمالها؟ لماذا لا تكتمل المسارات؟!! ولكن سؤال المسرحي النبيل عامر علي عامر لنفسه الآن في عالم الراحة الأبدية هو سؤال بلا معاناة. المعاناة لنا ونحن نري أحلامًا تتوقف وشر الإغاظة وتجنين الناس الموهوبة بحرمانهم مساراتهم المهنية يصبح قاعدة بلا استثناء وكل جهد شوقي خميس وعبدالغفار عودة وكمال الدين حسين وسعد أردش وعلاء حمروش وفاطمة المعدول وشوقي حجاب ويعقوب الشاروني وصلاح السقا قبض الريح فقد قرر غير المختصين الجدد البدء من نقطة الصفر لا تحزن يا صديقي الجميل نم في هدوء النعيم سيأتي من بعد تلك اللحظات المفتتة أشخاص يرفعون الالتباس ويسمحون لأصحاب الأحلام بالعمل عليها ويدركون أن المسرح للأطفال هو صناعة ثقافية ثقيلة قادرة علي صناعة المستقبل هكذا كنت تعلمني عندما كنت طالبك المشاغب وهكذا كنت تردد في كل مجلس علم.