حتي العام الماضي لم أكن أحب فصل الصيف، وإضافة إلي متاعبي ومعاناتي فيه كنت أجد دائماً أنه يفرز أسوأ ما فينا من كل النواحي، لكن دوام الحال من المحال، فالمعاناة في حد ذاتها مسألة نسبية، وحينما تضاف إليك أسباب للمعاناة ولو شخصية فإن ما كان صعباً أو حتي مؤلماً قد يأتي وقت لا تفكر فيه أصلاً، وإذا تذكرته قد تتمناه إذا ما خيرت بينه وبين معاناتك الجديدة. كنت لا أتحمل حرارة الطقس، ولا قسوة الشمس، ولا «خنقة»الرطوبة العالية، ولا أطيق زحام المرور. ولا أشعر بالسعادة في المصايف، بل أعتبر أن المعاناة تزيد فيها إذ تكون مطالباً بجهد أكبر في جو خانق، وأنت تقنع نفسك بأنك تخفف من وطأة الصيف عليك!! كنت أجد سلوك الناس أكثر عنفاً وفظاظة، وأشفق علي هؤلاء الذين يقبعون داخل باص أو ميكروباص أو هؤلاء الذين اضطرهم أكل العيش إلي العمل في الشمس الحارقة. وأحسد هؤلاء الذين لا يشعرون بالحر ولا يتأثرون بالرطوبة، وينتظرون الصيف ليسعدوا بأيامه ولياليه. لم يعد للحرارة المرتفعة التأثير نفسه علي العبد لله فعقلي يدور في أمور أخري، ولم يعد للشمس الوطأة نفسها علي بدني، ربما لأن جسدي تحمل، أو هكذا أعتقد، ما هو أكبر من قسوة الشمس. وعلي هذا فإن الازدحام لم يعد أمراً مزعجاً لأنه موجود طوال أيام السنة أصلاً، وسلوك الناس لم يعد يقلقني لأن الأخلاق ضُربت في البلد، والأدلة كثيرة، والوقائع تتحدث عن نفسها كل يوم وكل دقيقة وكل ثانية. حتي انتقادنا للوزراء والمسئولين لهرولتهم في الصيف إلي المنتجعات والمصايف في الساحل الشمالي لم يعد له جدوي إذ يأتي السؤال إلي: وماذا يفعلون أصلاً حين يقبعون في مكاتبهم في شهور الربيع والخريف والشتاء؟ كان بعض الأصدقاء يعتبرونني كائناً شتوياً، لكني الآن تغيرت ولم أعد أتأثر كثيراً بفصول السنة، فقط وحدها الملابس التي تجعلني أدرك أن فصلاً ذهب وآخر أتي. ليس للأمر أي علاقة بالبرود أو اللامبالاة، ولكن له صلة بأولويات المعاناة، وكذلك أولويات الرفاهية، أو الوصول إلي قناعة بأن الدنيا فيها أهم كثيراً من الصيف والشتاء، وأن سنوات العمر المعدودة يجب أن تستثمر في أشياء أكثر فائدة، وأنه ليس من المفروض أبداً أن تحصر نفسك لتعيش حياة ترفضها، وأن عليك أن تغيرها إذا كان لديك الفرصة أو القدرة علي تغييرها. كنت إنساناً سوياً وأعطاك الله العقل الذي يساعدك علي أن تتخذ قراراً وتنفذه لترتاح فلماذا التأخير فيه، فلتقرر وتنفذ و«تلحق نفسك» قبل أن تتآلف مع «عيشة» تندم علي أنك قبلت بها حين لا ينفع الندم أو يسعفك الوقت أو القدرة. سينشغل الناس خلال شهر كامل في الصيف بمنافسات كأس العالم لكرة القدم وسيواصل غيرهم انشغالهم بامتحانات الأبناء في الثانوية العامة ثم النتائج ومكتب التنسيق والتقديم للجامعات وسيهجر بعضهم بيوتهم إلي المصايف وسيترقب سياسيون ومهتمون بالسياسة انتخابات مجلس الشعب المقبلة وسيتكرر. ما جري قبل وأثناء وبعد انتخابات الشوري وسيقضي بعض الناس لياليهم أمام برامج التوك شو ليزيدوا من معاناتهم، والحياة تسير في الصيف كما في الشتاء، وإذا ما كانت هناك منغصات تؤرقها دون أن يكون لي ولكم سبب فيها، وفرضت علينا، فليس أقل من أن نبعد عن أنفسنا هموماً كنا السبب في أن تسيطر علينا. إذا شعر أحدنا بالظلم فيكفي أن يدعو الله الذي يمهل ولا يهمل أن يضرب الظالمين بالظالمين وأن يخرجنا من بينهم سالمين إلي أن يعودوا عن ظلمهم، وعندها سيصبح حر الصيف رفاهية، بل سندرك أننا أضعنا من أعمارنا أوقاتاً استنزفنا فيها أنفسنا وعانينا فيها.. من أوجاع الرفاهية.