ينبه هذا الكتاب «المياه فى الشرق الأوسط.. الجغرافيا السياسية للموارد والنزاعات» إلى ما أسماه مؤلفه التونسى حبيب عائب «معركة الأرقام»فى أثناء توضيحه لمدى صعوبة تحديد مقدار الموارد المائية خاصة على الصعيد المحلي، والتى بحسب تأكيده يتم التعامل معها فى أحيان كثيرة على أنها معلومات عسكرية غاية فى الأهمية والسرية. الكتاب الذى صدر أول مرة عام 1996 عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وأعادت مكتبة الأسرة طبعه ليتزامن مع الأزمة الدائرة فى حوض النيل، يركز على مشكلة رئيسية هى ليست فى ندرة أو جفاف المياه، بل فى توزيع جغرافى للموارد والحدود والشعوب، وفى المقابل لا يميل المؤلف المعار حاليا بال«السيداج» بالقاهرة ويعرف نفسه فى المقدمة ب«جغرافى عربي»، إلى حتمية حروب المياه التى تتنبأ بها أغلب الكتابات الأجنبية الأوروبية والأمريكية عن موضوع المياه فى الشرق الأوسط، وإن كان يرى أن الصراع على الموارد المائية حقيقى ومتداخل مع صراعات أخرى، سياسية بالطبع، لكن الوضع من وجهة نظره لا يرتقى فى الغالب إلى حروب مياه، ويتساءل: أين وبين من بالتحديد ستقوم حروب المياه؟ هذا الكتاب كما يصفه مؤلفه دراسة علمية لخريطتنا المائية والسياسية التى يعاد رسم حدودها بخطوات متسارعة وفى اتجاهات لا تخدم مصالح المواطن العربي، وفى الجزء الثالث والأخير من الكتاب وعنوانه «النيل.. محور جيوسياسى كبير»، يقول عائب إن النيل هو الصلة الطبيعية الوحيدة بين إفريقيا الإفريقية وإفريقيا العربية، يقصد بين جنوب السودان وشماله، وهو - أى النيل - يتفوق فى ذلك على الروابط السياسية والإدارية التى تتحول إلى خط مواجهات بسبب التمرد الجنوبى المتصاعد الذى يهددها. بالتغاضى عن الأرقام والمعلومات البيانية والإحصاءات غير المحدثة التى وردت بالكتاب، يمكننا الوقوف على أخطر وأهم مراحل التحركات المصرية بخصوص حوض النيل، يعددها المؤلف مؤكدا أنها ما زالت تشكل إلى الآن ملامح قضايا المياه فى الشرق الأوسط، حيث ينتقل بنا من مشروعات الحكومة المصرية عشية الثورة بشأن ترويض أو تهذيب مجرى النيل الأعلى والتى لم تكتمل، إلى المعاهدة المصرية السودانية حول تقاسم مياه النيل، التى أبرمت فى 8 نوفمبر عام 1959، وكانت بمثابة قبول نهائى من الحكومة المصرية باستقلال السودان، وانبثق عنها مشروع بناء السد العالي، وما يشير إليه عائب هو أن تلك الاتفاقية كانت محورية ومحل نزاع من قبل السودان نفسها التى طالبت فيما بعد بإعادة تقسيم جديد لمياه النيل، وكذلك أثيوبيا التى دخت هى الأخرى فى المعركة. ثم ينتقل المؤلف إلى السد العالى الذى دشن فى عام 1964، بوصفه غيّر جغرافية المكان، وأنه بنى فى الأساس لجلب منابع النيل إلى داخل الحدود الدولية لمصر، ثم الحيلولة دون أن تستخدم الدول التى تقع فيها المنابع لممارسة ضغوط سياسية على القاهرة، وهذا بالضبط ما يحدث الآن بصورة أو بأخرى، ويبدو هنا المؤلف متنبئا منذ 14 عاما بما يدور الآن، ويلمح فى صفحات فصول أخرى بالكتاب إلى دخول إسرائيل كقوى ضغط فاعلة وطرف «مراوغ» فى النزاع على حوض النيل، مما يحيل قضية الصراع العربى الإسرائيلى برمتها وفق ما يقوله عائب إلى نزاع على نصيب المياه، أو لهاث على رشفة مياه، وليس نزاعا على السيادة على الأرض والحق فى الأرض. يصل المؤلف فى النهاية إلى حقيقة أن المياه فى مصر «وضع لا يحسد عليه» نظرا لما يتعرض له هذا البلد من عواقب عدم التوازن بين الموارد المائية والنمو السكاني، وإذا كان المؤلف يعدد بعض الحلول الجزئية للحد من تلك المشكلة، إلا أنه يحذر من محدودية فرص التوصل من جديد إلى اليسر الذى أتاحه السد العالى طوال الفترات الماضي، فيما يمكن فهمه بالتبشير بحاجة مصر إلى «سد عال جديد».