في أوائل السبعينيات التي كانت أوائل سنواتي الجامعية، كان اتجاه الحركة هو الاتجاه إلي اليسار، الأغلبية تركض ثم تمشي ثم تقف قرب منتصف اليسار، والأقلية النادرة تواصل السير فتنعزل، كنت أيامها مغمورا في أسئلة أخري، أسئلة الشعر وأسئلة الله وأسئلة الحب والصداقة والعائلة ودستويفسكي والبير كامو، وكان بطلاي الشعريان هما صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي، وبسبب هذه الأسئلة عزفت في سنتي الجامعية الثانية عن دخول الامتحان، كان محمد خلاف زميلي في الكلية، وفي الشعر، وفي الأسئلة، كنا غريبين وسط طوفان من أسئلة مباشرة حول الماركسية والناصرية، وعن إسرائيل والعرب، وعن السادات وخصومه، هذا الطوفان الذي وقفت غالبا علي حافته، كان يسحبني أحيانا إلي الدوامة، فأغوص حتي أنتبه، وإذا انتبهت خرجت أفتش عن أسئلتي، ماجدة شعراوي تحاول أن تقنعني بأن أسئلتي أسئلة كهوف، وتعرض علي الخروج إلي الهواء الطلق، وفي لحظات نشوتها تغني أغنيات الشيخ إمام، ولما ،هي وزملاؤها ، استضافوا شعراء جماعة كتاب الغد، امتلأ المدرج، واستمعت لأول مرة إلي شعر محمد سيف وزين العابدين فؤاد ومحمود الشاذلي، وغني الطلبة مع الشيخ إمام، لم أجارهم، ظللت مزموم الفم كأنني أبكم، في تلك الفترة قرأت ديوان أمل دنقل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، كان قلبي حائرا بين آباء وأجداد يشغلون منه حيزا كبيرا ، وبين محدثين، لكن أمل دنقل جاءني وكأنه أحد الآباء، وأيضا كأنه أحد المحدثين، وحتي الآن مازلت أضع أملاً في طابور الشيخ رفاعة والشيخ علي مبارك والشيخ طه حسين وأحمد عبد المعطي حجازي، والآن بهاء طاهر، أكثر مما أضعه إلي جوار سلامة موسي وحسين فوزي ولويس عوض وصلاح عبد الصبور، والآن إبراهيم أصلان، تعلمت إنشاد الشعر أولا بفضل سماعي تلاوات أبي للقرآن في رمضان، وثانيا بفضل قراءاتي بصوت مرتفع للشعر القديم، كان الصوت هو العمود الفقري لهذا الشعر ، لم يكن خيطا رفيعا كما أصبح فيما بعد، وعندما بدأت أتعرف علي الشعر الجديد، اكتشفت أن شعر السياب ونازك الملائكة و بلند الحيدري وأحمد حجازي يحفظ لي ملكة الإنشاد التي زرعها صوت أبي، ولما قرأت (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) ازداد إحساسي بوجود حنجرتي، بوجود أذني، بوجود الهواء، كان صوتي يرتوي وينمو ويرتفع ويزداد خصوبة إذا جلست وسط أصدقاء وقرأت عليهم من الذاكرة: المجد للشيطان معبود الرياح، من قال لا في وجه من قالوا نعم، من علم الإنسان تمزيق العدم، من قال لا فلم يمت وظل روحا أبدية الألم، مع كل قراءة كنت أحس أن حنجرتي تجري وتسبقني وتصل إلي القافية قبلي، كنت أحس أن هذا الإيقاع يشبه سفري علي ظهر جمل، يخب سريعاً أو بطيئا، وأهتز معه يميناً وشمالاً، قلدت الإيقاع كثيرا، كنت مفتونا، في أحيان أخري أحسست وأنا أستعيده كأنني في عز الظهيرة أجلس تحت نخلة، كنت أستكمل عدّتي الصوتية، لم أهملها قط ، لكنني سأحاول فيما بعد أن أتخلي عن علوم الأوائل وعن جمالهم ونخلاتهم، لأنها كلها ظهرت لي وكأنها علوم لا تعيش إلا تحت سقف واطئ، معها أغني وأرتاب، أو أغني وأطمئن، ثم أغني وأرتاب، في تلك الفترة قابلت محمد خلاف، بدا كأنه اهتدي إلي مكان لا يبعث علي كامل الاستقرار، لم يكن خلافًا مشغوفا بغناء أمل دنقل، كان مشغوفا أكثر بأنين عفيفي مطر، لم يكن مشغوفا بصلابة أبنية نجيب محفوظ أو يوسف إدريس، كان مشغوفا أكثر بتشققات إدوار الخراط وغالب هلسا وأحمد هاشم الشريف، كان خلافًا لا ينام إلا تحت سماء أدونيس، كأنه الأعمي البصير، هو لم يعتقد أن أمل دنقل يملك سماء في الأصل، ظن أن أمل وضع يده علي قطعة أرض هي في الحقيقة ملك للدولة، هي في الحقيقة بلا سماء، محمد خلاف رأي دائماً أن أمل ليس ابن الله، ولكنه ابن الدولة، يمكن أن تعدلها وتقول ابن الوطن، اكتفيت في تلك الأيام البعيدة بالدوران حول البكاء، مر من تحت إبطي ديوانه تعليق علي ما حدث، مرت أيضا قصيدته عن الاتحاد الإشتراكي التي تبع فيها حجازي، مكث ديوان العهد الآتي بعض الوقت، ثم مرّ هو الآخر، وظل البكاء تتردد أصداؤه من وقت إلي آخر، في أوله كان بكاء بتشنج ودموع، وفي آخره كان بكاء بدون، في أواخر السبعينيات ستألف قدماي الطريق إلي الأتيلييه، وسوف أري عن بعد أمل دنقل، ببدلة بيضاء، وكوفية طويلة حمراء، سوف أراه ثانيا في دار الأدباء، عضوا في أمسية تديرها روحية القليني، سيقرأ قصيدته الشهيرة لا تصالح، وسوف تحاول روحية إثناءه عن قراءتها، لكنه سيغضب ويصر، كان أمل قارئا رديئا يتخلص من كلماته، يتفلها في وجوهنا فتصيبنا الرعشة، صلاح عبد الصبور كان أيضا قارئا رديئا، يتخلص من كلماته يعرقها من لسانه، فنفكر أن نحتضنه ونمسح عرقه، أما حجازي و هو الأبرع، فيؤدي أداء ممثل مسرح، وتظل القراءتان الرديئتان قراءة التحريض التي تتفل، وقراءة الخوف التي تعرق، أكثر براءة من قراءة التمثيل والفرجة، القراءة الأكثر احترافا، الأقل نفاذا، مدرسة القراءة المصرية تكاد تكون بلا تقاليد، بلا تاريخ، تكاد تكون الفن الأدني، من مدرسة التلاوة، هنا، ومن مدارس القراءة الشامية هناك، علي المقاهي خاصة مقهي زهرة البستان كنا نسمع الحكايات عن أمل، كانت خيوط الكلام تلتف حوله، فهو ابن شوارع وبارات ومقاه، لا بيت له وصاحبه الأول هو ظله، ثم ظلال الآخرين، كنا نسمع عنه فنخافه، أصداء مشاجراته مع نجيب سرور أغاظتنا منه نحن العاطفين علي نجيب، حكي أحدهم أنه عندما نزح محمود درويش إلي مصر، وعمل بالأهرام بمكافأة قدرها مائة وخمسون جنيها، رغب أمل في مثل عمله ومثل مكافأته، وطلب ذلك من لويس عوض الذي قال له: هذه ليست مكافاة لدرويش، إنها للمنظمة، ووفروا لأمل عملا في الهلال بخمسة عشر جنيها شهريا، لم يذهب إليه سوي مرة، حكي أحدهم أن صلاح عبد الصبور دعي ذات مرة إلي حفل، ودعي بعده أمل فسأل أمل عن الضيوف، قيل له: صلاح، فاتصل أمل بالسيدة نبيلة ياسين مطلقة صلاح، ودعاها، وفي الحفل فوجئ صلاح بوجودها وارتبك وغادر، كان أحمد حجازي يغار من صلاح، وأمل لا يحبه، وعفيفي مطر يكرهه، حكي أحدهم أن أمل ظل يحصل علي منحة تفرغ حتي استنفد المدد المسموح بها، فعرض عليه يوسف السباعي عملا بمنظمة التضامن الآسيوي الإفريقي، براتب قدره خمسة وعشرون جنيها، مساويا للتفرغ علي ألا يذهب إلي العمل إلا يوم القبض، وظل أمل وفيا لهذه المكرمة، ولما قتل يوسف رثاه أمل بقصيدة وقرأها في المسرح القومي ، وكنا كلنا لا نري يوسف بعيون الرضا، كان خازن ثقافة السلطة لم نحتمل من شاعر الغضب أن يرثي عدو الغضب، وكتبنا - جماعة أصوات- بيانا يناسب زمنه وزمننا وزمن أمل دنقل، وأطلقنا عليه لقب شاعر كل العصور، بعدها مررنا أمام كافيه ريش، ورآنا أمل، ودعانا للجلوس معه، لم يشر للبيان، كان يتعرف علينا، في تلك الفترة تقريبا كتب حلمي سالم بضمير جيله كأننا فوضناه، أوكأنه يرغب في أن يمثلنا قسرا أو طواعية، وربما كأنه يحتمي بنا كعائلة، كتب نحن أدونيسيون ولسنا دنقليين، في جلستنا مع أمل، ظل ودودا، ينكش ويسمع ولا يعتدي، في كافيه ريش أيضا، وفي لقاء ثان، أقبل علينا الموظف البسيط المنتسب إلي الجامعة، الذي يستعين علي حياته بكتابة أعمال الكتّاب علي الآلة الكاتبة ، اصطاده أمل، وحبسه في حوار غير متكافئ: (مادام الإسلام يتحدث عن التوبة، هل إذا تاب السارق الذي قطعت يده وقبل الله توبته، هل يده سترد إليه، والقاتل المحكوم بالإعدام، لن تتاح له فرصة التوبة مادام سيعدم ويموت، رأيت الرجل البسيط مثل زرافة وديعة في قفص أضيق منها، وأمل يتلذذ بتعذيبه، الغريب أنه بعدها يتحدث عن الفلسفة اليونانية والسوفسطائيين، لما أراد أحمد طه أن يزور أمل في غرفة مرضه، أحد شعراء العامية رجاه أن يذهب معه، وبعد الزيارة، احتد أمل و نادي أحمد وسأله: أنت أتيت بفلان، أجاب أحمد: نعم، قال أمل: أبلغه ألا يأتي ثانية، أحمد طه هو أقربنا إلي أمل، وعبد المقصود عبد الكريم أكثرنا حبّا له، ومحمد سليمان مأخوذ بصلاح، ومحمد عيد إبراهيم مأخوذ بإنكارهم جميعا، وكنت في الظاهر والباطن أقلهم رغبة في إنشاء علاقات مع هؤلاء وأكثرهم مشاكسة لهم، الآن أتصور أنني كنت أكثر انقساما من زملائي، أكثر حيرة، وكانت حربي مع حيرتي أعنف من حروبهم، ومع ذلك مازال بطلاي الشعريان صلاح وحجازي، بعد ديوان البكاء كان لابد أن أصل إلي أقل دواوين أمل كلاسيكية وأكثرها حداثة وشفافية ورقة، أن أصل إلي أوراق الغرفة رقم 8 التي نظفها المرض من الغناء القديم، كما نظفت باريس لسان أحمد عبدالمعطي حجازي من بقايا أوراس، فكتب كائنات مملكة الليل، أقل أعماله كلاسيكية واكثرها حداثة وشفافية ورقة، ولما عاد إلي مصر عادت إليه القدامة، أمل كتب تحت وطأة المرض أوراق الغرفة، لكن الموت لم يسمح له أن يبرأ فتعود إليه قدامته، أو يستمر في الشفافية، حكي لي الصديق فهمي عبد السلام أنه عندما قال لأمل : مالهولاء الشعراء الجدد يهاجمونك، قال أمل: "امتطاء صهوة"، إيجاز وحكمة، نعمتان في كلمتين، امتطاء صهوة ، في كل مرة رأيت فيها أمل كنت أظنني في مصر القديمة وأظن انني رأيت أخناتون، وأنه بعد قليل سيختفي في معبده ثم يظهر فجأة هكذا هكذا.