نسميها هكذا باعتبار أن الرياضة نوع واحد، رياضة بحتة أو ماثيماتيك. أما الرياضة البدنية فهي مجرد "ألعاب". اختصرنا التعبير الحكومي "ألعاب رياضية" في تعبير يوضح مدي اهتمامنا بالحصة الذي يتسق مع تهاون المدرسة بها. البنات كلهن يرتدين الشورتات البيضاء المصنوعة من البفتة السميكة وتي شيرت الألعاب المصنوع من القطن المرسيريزيه. نلبس الشورت والتي شيرت في البيت تحت اليونيفورم ثم نخلعه في الفصل ونحن نتغامز ونتلامس ونتدافع. في الشتاء نضع الشورت الأبيض فوق الكولون الأزرق السميك، وفي الربيع نتباهي بجمال سيقاننا العارية من غير سوء. كان ذلك في السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، قبل التطرف. الحصة لا تزيد بحال علي نصف الساعة أسبوعيا والمعتاد أن يتم إلغاؤها من وقت لآخر لسبب غير معلوم، فنأخذ الحصة في الحوش، بلا رقيب سوي الراهبة المسئولة عن الزراعة والتي تجوب الحوش والغابة الصغيرة الملاصقة له طوال النهار- بلا كلل. تبدأ الحصة بحركة مد وثني، للأذرع أولاً مثل حرف ال"تي" الإنجليزي، للجذع ثانياً مثل إبريق الشاي المقلوب. نتضاحك فيما بيننا عندما تدفع إحدانا ذراعها في وجه زميلتها، والمدربة تصفر وتنهرنا. كنا نعتبرها سمينة بالمقياس الأجنبي وكانت تعتبر نفسها ملكة جمال النحافة بالمقياس المحلي، مع الاعتراف بأن "الربربة" مسألة تقديرية. نسير في أماكننا بعض الوقت، ثم نبدأ في الجري في دائرة كبيرة تتسع لخمس وعشرين بنتا، ندور في الحوش دورة نشيطة، دورة واحدة بالعدد ونبدأ في اللهاث والتباطؤ والتدافع والضحك. صفارة المدرسة تحثنا علي الاستمرار، نبطئ رغماً عنا بعد الدورة الثانية ونتوقف ونكمل ونتوقف تماما بعد الدورة الثالثة. عندئذ تنطلق الصفارة لتعلن بداية الحصة الفعلية. لو كانت المدربة راضية عنا وعن نشاطنا تسمح لنا بأن نلعب كرة السلة، رمية أو رميتين لكل طالبة. تطاردنا صفارتها حتي لا يضيع الوقت وتأخذ إحدي الكور وترميها لتعلمنا الرمية الصحيحة، وعادة ما تصيب. أما لو كانت "قرفانة حبتين" فإننا نقضي الوقت المتبقي في عمل تمارين علي الواقف، أو علي الأرض. تتسخ الملابس من الرمل ويلسعنا الحصي. تمر بيننا ونحن نائمات علي ظهورنا وتعطي تعليمات بالخرزانة، لفرد الساق أو لرفعها لأعلي، ولكي تقضي علي كل مقاومة تنهي الحصة بتمارين الضغط. الطابور أمام الحنفيات طويل. ثماني حنفيات، تصب كلها في حوض كبير من الجرانيت. نجري قبل أن يدق الجرس لنشرب ونغسل عن أيدينا الأتربة. تمضي حصة الألعاب كأننا كنا نحلم، يتبعها عادة حصة من اثنتين، إما لغة فرنسية أو جغرافيا. يزيد نشاطنا في حصة اللغة الفرنسية ويصيبنا نعاس لطيف في حصة الجغرافيا. انضممت علي مضض لفريق كرة اليد بزعامة "الفروِد" إيمان. كانت أشطر بنت في الألعاب وكنت أشطر بنت في كل ما عداها. باختصار كانت هي البنت الأكثر شعبية في المدرسة وكنت أنا البنت التي تثير الغيرة وتشعر من يصاحبها بالملل. لذلك كانت تنتصر علي في الملعب، وكنت أري فرحة البنات بهزيمتي فأحزن قليلاً ثم أقول لا بأس، الهزيمة تخزي العين. في المدرسة الثانوية تغلبت علي سمعة البنت المملة التي طاردتني لسنوات، وانضممت لفريق كرة اليد. في نفس الوقت، وبالمصادفة البحتة، بدأت نشاطاً غير مسبوق كقاضي غرام البنات. سحبت بساط الشعبية من تحت أقدام إيمان، ولم يكن أحد منا يتصور أن تكون لديها خبرة في الحب والغرام. كانت مثل ولد شقي، لا تفكر إلا في تقوية عضلات ساقيها وذراعيها. خبرتي في اللعب بكافة أنواعه، بما في ذلك لعبة الحب، محدودة للغاية. لكني كنت سريعة الحركة في الملعب، سريعة التقلب بين المحبين. كانت لدي قائمة لا بأس بها من المعجبين تسمح لي بأن أتخيل المواقف وأضيف إليها من الأفلام ما يجعلها تبدو واقعية، والبنات يصدقن الأفلام كأنها حقيقة. يستشهدن بعبد الحليم ويحلفن بميرفت أمين. جزء من مهمة اللاعب الحريف أن يقنع الآخرين بالحرفنة دون برهان. هكذا وبمرور الوقت استطعت أن أثبت جدارتي برتبة قاضي الغرام. أقيم العلاقات وأهدها في غمضة عين وأسدي النصائح لكل من هب ودب، لكل من ينضم للشلة في الفسحة من الحواريين. ندور بلا كلل في الحوش، نتكلم، ونضحك ونسخر من بعضنا البعض ونكذب لنداري خيبتنا ونبالغ في التعبير عن آلام الحب وعذاباته كأننا سنة ستين وليس سنة ثمانين. نتكلم كثيرا ونحلم أكثر والبنت الساكتة وراءها مصيبة نتفنن في البحث عن أسبابها ودوافعها، أما كلمة النهاية فينتظرنها مني، أقولها مثل حكمة لم يفكر فيها أحد غيري، آخذها من كتاب أو فيلم وأحيانا من تجربة خاصة أضيف إليها ما كنت أظن أنه بهار الحكاية، قبلة أو لمسة يد. ظللت أمارس اللعب بأنواعه كل يوم، ثلاث سنوات كاملة، بشرط عدم الانتظام. في الثانوية العامة تخليت عن تمارين كرة اليد من باب الملل وعدت لسابق سمعتي كأشطر بنت في الفصل وأخيب بنت في الألعاب الرياضية. أما في ألعاب الحب فقد زادت خبرتي مع الوقت، وتحسنت معلوماتي بعد أن صادقت المدرسة الفرنسية (تلك التي درستنا قصائد فيرلين ورامبو وعلمتنا كيف نقرأ أنتيجون). دعتني إلي بيتها وحكت لي بلا مواربة عن علاقاتها السابقة والحالية. انبهرت! وانبهرت البنات بعلاقتنا، لا يصدقن أن تصاحب المدرسة تلميذتها النجيبة وتدعوها إلي بيتها. يسألنتي عن البيت وعن زياراتي المتكررة وعن نوع الأحاديث التي نتبادلها ويغرن. يغني فيرلين بحزن عن الخريف وعن حبه لأمه وتختار انتيجون الموت بعظمة المحبين الكبار وأنصاف الآلهة، أكتب تحليلا لقصيدة أو لمقطع من المسرحية فتقرأه معلمتي الفرنسية في الفصل وتتعجب البنات من أين يأتي هذا الكلام؟ يعرفن بما لا يقبل الشك أني عفريتة صغيرة، وأعرف بما لا يقبل الشك أني أهوي اللعب، معهن ومع الحياة.