من يدعو الفلسطينيين إلي مقاطعة المفاوضات غير المباشرة مع الإسرائيليين، إنما يدعوهم إلي الانتحار لا أكثر. هذا لا يعني أن هناك ما يدعو إلي التفاؤل المطلق بنتائج المفاوضات، خصوصا أن الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بيبي نتانياهو لا تريد في الأصل التفاوض. وإذا فاوضت هذه الحكومة، يبدو همها محصورا في تمرير الوقت بغية تفادي أي تسوية من أي نوع كان، خصوصا إذا كان الهدف منها زوال الاحتلال. مع ذلك، تبدو المفاوضات ذات فائدة للجانب الفلسطيني علي الرغم من كل ما يقال عن أنها لن تؤدي إلي أي مكان علي الصعيد العملي. قبل كل شيء، يتوجب علي الجانب الفلسطيني البحث في الأسباب التي أدت إلي تدهور وضعه في السنوات الأخيرة وما هي الوسائل الكفيلة بتحسين هذا الوضع؟ هل من سبيل آخر، في المرحلة الراهنة، غير العمل السياسي الذي جاء تتويجا لنصف قرن من النضالات واجه الفلسطينيون خلالها المحتل الإسرائيلي بكل أنواع الأسلحة والعمليات من داخل الأرض الفلسطينية وخارجها؟ من بين الأسباب التي أدت إلي تدهور الوضع الفلسطيني عموما، بما هدد القضية التي يقول عرب كثيرون إنها لاتزال قضيتهم الأولي، علي الرغم من عدم ايمانهم بذلك، الوضع الإقليمي. هناك شرق أوسط جديد في مرحلة إعادة التكوين، خصوصا منذ الاحتلال الأمريكي للعراق الذي أخلّ بالتوازن في المنطقة لمصلحة إيران. شئنا أم أبينا، كانت إيران الرابح الأول والوحيد من الحرب الأمريكية علي العراق. كانت شريكا فاعلا في هذه الحرب إما عن طريق تقديم التسهيلات الي القوات الأمريكية خلال مرحلة الإعداد للحرب أو بعد بدء الاجتياح أو عبر دفع المعارضة المتمثلة بالأحزاب الشيعية الكبيرة في اتجاه دعم التحرك العسكري الأمريكي. لم يؤد الاحتلال الأمريكي للعراق إلي الإخلال بالتوازن الإقليمي فحسب، بل فجر أيضا نزاعات كانت المنطقة العربية بعيدة عنها. علي رأس هذه النزاعات الحساسيات المذهبية البغيضة التي ساهمت، إلي حد كبير، في ابتعاد الاهتمام عن القضية الفلسطينية. لا شك أن هناك عوامل أخري لعبت دورها علي صعيد إعادة خلط الأوراق في المنطقة، بما في ذلك الحرب في أفغانستان، والحال الباكستانية المستعصية التي تسبب بها التطرف الديني والبرامج التعليمية التي في اساسه، والحرب علي الارهاب التي استغلها الأمريكي لمباشرة الحملة العسكرية علي العراق. لكن ذلك لا يعني أن علي الفلسطينيين السقوط في فخ اليأس، لا لشيء سوي لأن قضيتهم قضية شعب موجود علي الخريطة السياسية للشرق الأوسط اولا ولديه مشروعه الوطني الواضح الذي يحظي بدعم المجتمع الدولي ثانيا وأخيرا. من ينظر بتمعن إلي ما تعرضت له القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، يتوقف عند محطة مهمة، بل في غاية الأهمية. انها النكسة التي تعرضت لها العلاقة بين السلطة الوطنية الفلسطينية والإدارة الأمريكية. سمحت تلك النكسة التي بدأت بفشل قمة كامب ديفيد صيف العام 2000 ثم بقرار عسكرة الانتفاضة الذي سبقه غياب الإعلان الفلسطيني الصريح عن دعم الورقة - الإطار التي طرحها الرئيس كلينتون قبل أسابيع قليلة من مغادرته البيت الأبيض، في قطيعة بين واشنطن والسلطة الوطنية الفلسطينية. تكرست القطيعة التي استغلها الجانب الإسرائيلي إلي أبعد حدود، في كارثة تمثلت في وضع ياسر عرفات، رحمه الله، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، في الإقامة الجبرية فيما يسمي"المقاطعة". وقد تسبب ذلك بوفاته في ضوء ما تعرض له من ضغوط وممارسات غير إنسانية لا يمكن أن توصف سوي بأنها إرهاب دولة. يرمم الفلسطينيون علاقتهم بالولاياتالمتحدة. يعرفون أن لا دولة فلسطينية من دون دعم أمريكي ويعرفون أن لا شيء يرفع الحصار عن غزة سوي الضغط الأمريكي. وهذا ما تدركه قبل غيرها حركة مثل "حماس". ولذلك اعترفت اخيرا بتوجيه رسالتين إلي الرئيس باراك أوباما من دون أن يمنعها ذلك من شتم المفاوض الفلسطيني الذي يتعاطي مع الإسرائيلي عبر المبعوث الرئاسي الأمريكي جورج ميتشل! ويعرف الفلسطينيون خصوصا أن ياسر عرفات كان أكثر من زار البيت الأبيض، من زعماء العالم، في العام 2000 وأنه لم يعد هناك من يسأل عنه عندما صار أسير "المقاطعة" في رام الله بين العامين 2001 و2004 لمجرد أن الأمريكيين قرروا مقاطعته. من ثمار قبول الفلسطينيين بالمفاوضات غير المباشرة اتصال أوباما برئيس السلطة الوطنية السيد محمود عبّاس قبل أيام وتأكيده له أنه "يدعم بقوة قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة تعيش بأمن وسلام مع إسرائيل". توقفت معظم وسائل الإعلام عند كلام أوباما عن "نيته" تحميل الجانبين مسئولية أي عرقلة للمفاوضات في حين أنه كان مفترضا أن تتوقف عند التزام الرئيس الأمريكي دعم قيام الدولة الفلسطينية "القابلة للحياة". كذلك، كان مهما في البيان الصادر عن البيت البيض اللهجة التي توجه بها الرئيس الأمريكي إلي رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. أنها لهجة تنم عن تعاطف كبير مع قضية الشعب الفلسطيني بدليل إبداء الرغبة في استقبال "ابو مازن" في البيت الأبيض قريبا. من الباكر الحديث عن "وعد أوباما" للشعب الفلسطيني مقارنة مع "وعد بالفور" لليهود في العام 1917 لكن ما لا يمكن تجاهله في أي شكل أن الفلسطينيين يسيرون في الطريق الصحيح بدليل تركيز حكومة الدكتور سلام فياض علي بناء مؤسسات الدولة وتجاهل كبار المسئولين في منظمة التحرير والسلطة الوطنية و"فتح" المزايدات التي تطلقها "حماس" من غزة. يعرف بعض الفلسطينيين الجديين أن "وعد أوباما" يمكن أن يتحول حقيقة في حال احسنوا التصرف وتفادوا الانزلاق في متاهات لا نتيجة منها سوي تقييد القرار الفلسطيني المستقل. في النهاية، هناك سؤال بديهي يفترض بالفلسطيني العادي طرحه علي نفسه. هل يريد دولة مستقلة أم لا؟ هل تسمح التوازنات الإقليمية بأكثر من ذلك؟ هل من أمل في دولة من دون الرضا الأمريكي، أيا تكن الملاحظات علي سياسة الولاياتالمتحدة في المنطقة؟