وأقصد (تأخرتُ) بضم التاء أي أنا التي تأخرت في كتابة هذا المقال الذي كان ينبغي أن ينشر في ذكري وفاة قاسم أمين التي كانت توافق 23 إبريل أي منذ أكثر من أسبوعين.. وقد مر علي رحيل المفكر والكاتب والقاضي والمبادر الشجاع قاسم أمين قرن وسنتان، وما زلنا نحتاج إلي أفكاره وأقواله وما نادي به، بل نكاد نتمني لو ولد من جديد ونادي مرة ثانية بالحرية الحقيقية. غالبا ما نربط قاسم أمين بالمناداة بتحرير المرأة، وتلك كانت قضيته الكبري.. ولكننا نتجاهل الفكرة الأصلية والعقيدة الأساسية التي سكنت عقل قاسم أمين ونتج عنها إيمانه لا بتحرر المرأة فحسب، بل غير ذلك من دعاوي التنوير والإنسانية معاً.. والذي دفعني للبحث عن قاسم أمين بعيداً عن المرأة هو هذا المقطع الذي قرأته في مجلة (ذاكرة مصر المعاصرة) تحت عنوان: (من كلمات قاسم أمين) وهذا نصه: (من الناس من أراد أن يفعل الخير انتهز الوقت المناسب لإعلانه، فإذا رأي شهودا وضع يده في جيبه وأخرج كيسه وعد النقود ووضعها ببطء في يد صاحبه بعد أن يراها الحاضرون ولكي لا يبقي عندهم شك في مقدارها، يقول لمن تفضل بمساعدته: خذ هذه الجنيهات العشرة.. فإذا خرج هذا المسكين، التفت إلي من حوله وشرح لهم عواطفه وحنوه واعتياده عمل البر، ثم كلما اجتمع في نهاره بواحد من معارفه أوجد مناسبة ليقص عليه خبر هذا الحادث العظيم. هذا الرجل أراد فعل الخير لنفسه فاستعمل صاحب الحاجة وسيلة لذلك. ومنهم من يريد فعل الخير فيقبل علي المحتاج فيفتح له قلبه ويصغي إلي شكواه ويشاركه في ألمه ويحزن لحزنه ثم يبذل له من عبارات التسلية وكلمات النصح ما يقوي عزيمته، فإذا قدم إليه مساعدة مادية دسها في وسط الكلام والمحادثة وهو مضطرب خائف أن يجرح إحساسا شريفا. يحتال في انتخاب طرق العرض ويعتذر عن عمله، فإذا قبل منه، شعر بفرح كمن يكون وقع في ورطة ثم تخلص منها.. ذلك هو المحسن الذي يعرف أن للنفس حياء يجب احترامه كما أن في الجسم ما ينبغي غض النظر عنه). فعلا نحتاج قاسم أمين ليأتي بهذه المبادئ الإنسانية من جديد.. ليقول لنا إن العطاء والبر وعمل الخير لا يتم بإعلانات وبرامج ودعاية، بل يكاد المحسن الحقيقي أن يكون كاللص في إخفاء بره وكالمحتاج في اضطراب مشاعره حتي يبلغ خجله مبلغا أكبر مما للمحتاج.. وقاسم أمين يتحدث عن المحتاج الذي يخجل من طلب المساعدة، أي المحتاج الحقيقي الذي ينبغي مراعاة مشاعره.. ويصور البر لا كواجب أخلاقي أو ديني، بل كحاجة إنسانية يحتاج المحسن لها كما يحتاجها الفقير. ولم يقف الأمر لدي قاسم أمين عند الاجتماعيات والقواعد الإنسانية للسلوك والعلاقات الاجتماعية، بل كانت أقواله الفلسفية، وأفكاره الوطنية، وعباراته المأثورة عن صورة الحياة في مخيلته ما زاد من إعجابي به أكثر فأكثر.. وللحديث عن فكر قاسم أمين بقية.