مصر العظيمة.. أم الدنيا.. كبيرة العرب.. الغنية بعلمائها ومفكريها.. مصر اليوم - باختصار - في أزمة دينية! وإليكم التفصيل: انهارت الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي.. وبالطبع فجع عوام المسلمين في جميع البقاع أقول عوام المسلمين، لأن مثقفيهم ما كانوا ليرضوا عن الخلافة والحكم العثماني.. وهو يستند إلي روايات منسوبة إلي الرسول (صلي الله عليه وسلم) ما أنزل الله بها من سلطان.. ويكفيك عزيزي القارئ هذه الرواية: «قال رسول الله: فإنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم (متفق عليه). كلما ظلمكم الأمير اطلبوا الرحمة من الله!».. وواضح أن نهج الخلافة الإسلامية - بعد الخلفاء الراشدين - لم يكن وفق كتاب الله.. بل كان إسلاماً وصفه الإمام الشيخ / محمد عبده بقوله: إنه ليس إسلام الكتاب والسنة، وإنما إسلام المتكلمين والمؤرخين والفقهاء! ولأن مصر أكثر دول العالم تديناً، فقد قام فيها الشيخ حسن البنا - رغم صغر سنه - خائفاً علي الإسلام أن يضيع، فأسس جماعة الإخوان المسلمين! وانتشرت الجماعة في أرجاء مصر.. وبالرغم من أن هتاف أعضائها: القرآن دستورنا.. فإن منهجها وسلوكها كان أبعد شيء عن القرآن.. كان نفس الإسلام الذي وصفه الشيخ محمد عبده.. والذي أدي إلي سقوط الخلافة العثمانية.. ومع ذلك استمرت الجماعة تمد أذرعها وتبث فكرها في البلاد.. لكن هذا الفكر لم يستطع - علي مر القرون - أن يغلب الاتجاه التنويري السائد، علي أيدي العظماء أمثال: محمد عبده، وأحمد لطفي السيد، وأحمد أمين، والعقاد، وطه حسين.. إلي أن كان التحول الكبير بعد نكسة 1967 . بعدها لجأ المصريون إلي الله يلتمسون العون.. فامتلأت المساجد.. وانتشرت المواعظ تنبه إلي أن الهزيمة كانت بسبب البعد عن طريق الله (تذكر أن الشيخ الشعراوي سجد الله شكراً علي الهزيمة)! والمطلوب هو التقرب إلي الله بالنوافل. ثم سافرت أعداد ضخمة من أبنائنا إلي بلاد الخليج حيث التدين المتزمت والثقافة البدوية (آخر خبر حكم أحد علماء الدين عندهم «بالردة» علي من يسمح بالاختلاط في قاعات الدراسة)! وتم إقناع أولادنا بأن الهزيمة كانت بسبب التمدن والتغريب.. وأن الخلاص في طريق السلف.. ولباس السلف.. والشكل البدوي من الجلباب واللحية والشال الأبيض والعمامة.. والحجاب وحبذا لو ظهرت ذبيبة الصلاة علي الجباه لتستطيع الملائكة التعرف عليكم يوم القيامة وقيادتكم إلي الجنة..! وكانت الفاجعة أن تكالب الإخوان (رغم الخطر) وخطباء المساجد.. والعائدون من الخليج.. ووعاظ الفضائيات.. وزج بالمصريين والمصريات في دوامة التدين الشكلي.. واعتبروه فاصلاً بين الإيمان والكفر، وانتشرت الزوايا في كل حارة.. والميكرفون بأعلي درجاته وبأصوات منفرة «رضي الله عن «بلال» الذي جعله الرسول مؤذناً لأنه أندي صوتاً»! وتسأل واحداً عن اسمه فيقول لك: إن شاء الله «حسين»! وتقول لآخر: صباح الخير فيرد، عليكم السلام ورحمة الله وبركاته! ومنعت من التداول: مساء الخير، وآلو، ونهارك سعيد لأنها حرام ( هكذا يعتقدون)! ويقول المودع: لا إله إلا الله، ويرد المغادر: محمد رسول الله (وكأنه سيعطل قضاء الله)! وأغلقت المحلات للصلاة، ويعود صاحب المحل ليغش في الكيل والميزان .. ويسمي فريق الكرة بفريق الساجدين! والآن إلي السؤال: أين الأزمة؟ والجواب: كان المصريون قبل هذه الظاهرات يعيشون معاً - مسلمين ومسيحيين - بالحب والسماحة - تراهم في الشارع معا وفي العمل معاً - وفي اللهو معاً - متشابهين في السحنة واللون والزي ولا يتميزون إلا حين يذهب هذا إلي المسجد وذاك إلي الكنيسة.. إلي أن استوردت السلفية مذهب «الولاء والبراء»: ( أحب المسلم وإن أساء إليك وأبغض المسيحي وإن احسن إليك): وكان رد الفعل خلق نفس الشعور لدي المسيحي! وتميز الشارع المصري بشكل ظاهر للعيان: رجال مسلمون بالجلباب واللحية أو بالمسبحة والذبيبة.. ونساء مسلمات بالحجاب، ومسلمات جداً بالنقاب! .. والبقية غير مسلمين. وهكذا مضي كل أحد في الشارع يفصح عن هويته.. وكأننا لم نكتف بخانة الديانة في البطاقة فنقلناها إلي الطريق.! وشبهة الاحتقان علي الأوجه.. وزاد معدل التعدي بينهم لأسباب تافهة! لقد قال أخونا «ميلاد حنا».. «إن مصر لم تشرخ علي أساس طبقي وفقاً للنظرية الماركسية، ولن تقسمها ثورات العمال أو تظاهرات الجوع.. ولكنها ستنقسم من التوجه الديني. إن هنا تنظيم اسمه الكنيسة.. وللأسف فإن التنظيم المواجه للكنيسة هو الإخوان المسلمون.. ومن هنا فمصر تواجه أزمة» (تحقيق بصوت الأمة). أخيراً أقول: لقد طلب المجلس العالمي لحقوق الإنسان إلغاء خانة الديانة.. وأنا أوافق فبعد قراءة كتاب الله وتدبره، أري أن ذلك لا يخالفه علي الإطلاق.. يا سادة: إن كل الأشكال التي يتمسك بها المتأسلمون ليست من الدين، إنما هي شارات ولافتات! فالجلباب والعمامة واللحية ليست من الدين إنما هي تراث قديم.. و«النقاب» ليس من الدين.. و«الحجاب» إن كان ذنباً فهو من الصغائر (وسيكون لهذا إن شاء الله مثال آخر).. لكن.. يا سادة اعلموا أن شق صف الأمة من الكبائر.. أكبر الكبائر! وإذا كانت القاعدة الفقهية تقول: «درء المفاسد مقدم علي جلب المصالح» فمن لي بمصطفي كمال (أتاتورك) يلغي خانة الديانة من البطاقة.. ومن الشارع أيضاً!