نكتسب الثقافة ممن حولنا ثم نمررها بدورنا إلي آخرين ويتم نقل الثقافة، حسب سفورزا في كتابه العلامة الجينات والشعوب واللغات، من خلال طريقين النقل الرأسي وهو مرور المعلومات من الآباء إلي الأبناء والنقل الافقي الذي يشمل كل السبل الأخري بين الأفراد غير الاقارب والجماعات الإنسانية المختلفة. والتطور الثقافي بطيء في حالة النقل الرأسي الذي يشبه النقل الوراثي الجينات لأن وحدة الزمن فيه هي الجيل (من 20 إلي 30 سنة )، أما النقل الأفقي فيتم سريعا، بل وأسرع مما نتخيل ، ويشبه إلي حد كبير العدوي وليس له علاقة بالمكان بقدر ماله علاقة باللحظة0 من مزايا عصرنا، عصر العولمة، ان العالم يزداد ترابطا وانكماشا في الوقت نفسه، مما أضعف الروابط التراتبية والرأسية أو قل النقل الثقافي الرأسي ، كما فكك البنية البطركية (الأبوية) حسب تعبير «هشام شرابي»، بفعل انتشار أدوات النقل الثقافي الأفقي وتعددها، حيث أصبح الإعلام اليوم من قنوات فضائية وإنترنت واتصالات عبر الأقمار الصناعية، عصب عملية النقل الثقافي الأفقي. إذ أحضر العالم كله أمام مرمي ومشهد الجميع، وحفز الشعوب والأفراد علي مقارنة أوضاعهم وأحوالهم بأوضاع وأحوال الآخرين باستمرار، وهو ما فتح الباب أمام الإنسان ليحلم أحلاما تفوق قدراته، ويحبط إحباطا يفوق احتماله. والواقع ان المسافة بين الخيال والواقع، بين الرغبة وقلة الحيلة، هي الميدان الذي تبرز فيه هذه الظواهر الجديدة في مجتمعاتنا، وحالة التمفصل " العقلي - الزمني" تلك. إحدي المشكلات المنهجية الخلافية، تتعلق بالسؤال الآتي: من أين نبدأ؟... هل نبدأ بتغيير الثقافة أم القانون؟ أم كليهما معا؟. فقد أثبتت تجارب عديدة شرقا وغربا أن جرأة التشريعات القانونية وسن قوانين تقدمية تنسجم مع تطلعات المجتمع إلي التقدم والتنمية والتطور، يمثل حصانة قوية للمجتمع ككل، أي يمكن أيضا للقانون أن يكون أقوي وأكثر تقدما من المنظومة الثقافية السائدة في المجتمع ومن الواقع الاجتماعي نفسه، إلي أن يتم التوازي بين البعدين بفعل تراكم التجربة الاجتماعية مع الزمن الذي يتيح للقيم والقوانين فرصة التغلغل والاستقرار. تقول مني ذو الفقار المحامية المعروفة والناشطة في مجال حقوق الإنسان (والمرأة): "لقد ناضلنا كثيراً من أجل تغيير القانون، وأفضل ما في تغيير القانون هو أنك حين تناضل من أجل تغييره فإنك تغير الأفكار السائدة أيضاً. إننا ندعو إلي تغيير العادات والتقاليد المتبعة، وبذلك نغير الثقافة السائدة". ورؤية ذو الفقار هي أنه "بمجرد أن يتحسن الوضع الاقتصادي لأي امرأة، فقيرة أو لا حظ لها من التعليم، فإن حياتها تتغير تماماً." وعندئذ فقط يمكن أن تصبح المرأة قادرة علي الحديث عن المشاركة السياسية. في المقابل ، هناك من يري ان تغيير الثقافة أولا هو الضامن الوحيد لأية تغييرات تشريعية أو قانونية ، وعلي سبيل المثال تكشف تجربة تركيا التي ألغت عقوبة الإعدام في جميع الجرائم منذ العام 2004 أن هناك 17 ألف حالة قتل في تركيا خارج القانون، ومايزال الفاعل مجهولا، وتلك المفارقة تعيد فتح ملف الثقافة في علاقتها بالقانون من جديد، بالمعني الواسع لكلمة ثقافة. فإذا لم يواكب إلغاء هذه العقوبة ثقافة التسامح والديموقراطية، واحترام القانون وسيادة الدولة، فسيظل الثأر والانتقام سيد الموقف وفوق كل قانون . فالنزعات القبلية والإثنية والطائفية، والميل إلي الثأر والقصاص، وأخذ القانون باليد، مازال مهيمنا كثقافة من صعيد مصر إلي شمال العراق، ومن غرب أفغانستان حتي شرق موريتانيا، وما بينهم.... في تركيا كما العرب، لأسباب يطول شرحها. هذا من جهة ، من جهة أخري فإن معظم دساتير دول منطقة الشرق الأوسط، تنص علي حرية الدين والمعتقد، بل وتقر المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، بصرف النظر عن اللون أو الدين أو الجنس. بيد أن هناك فارقاً كبيراً بين النص والواقع، كما يؤكد العلامة القانوني الدكتور سليم نجيب ، فقد يتضمن الدستور وهو أسمي القوانين وأعلاها شأنا نصوصا عن المساواة والحرية واحترام حقوق كل الأفراد، ثم يكشف لنا الواقع والتطبيق عن انتهاك هذه النصوص الدستورية وبالتالي يتأكد الانفصال بين الواقع ونصوص القانون، والسبب بكلمة واحدة هو غياب "ثقافة" المواطنة، والمساواة في الحقوق والواجبات، وباختصار غياب منظومة حقوق الإنسان.