ماذا حدث للمصريين حتي تحولوا نحو التسول علنًا وجهرًا في وسائل الإعلام وعلي أرصفة مجلسي الشعب والشوري وفي مواقف السيارات وإشارات المرور حتي أصبحت ثقافة «عشانا عليك يا رب» و«حسنة قليلة» و«حاجة لله» و«كل سنة وأنت طيب». شعارات تتردد علي كافة المستويات والفئات العاملة والباطنة الصالحة والطالحة دون خجل ودون عزة أو كرامة عرف بها المصريون من قبل، والمشكلة ليست أن هذه الحالة المتردية والمزوية للشعب والعاملين وللإعلام قد آلت لتكون فضيحة يومية تبث عبر الفضاء المفتوح للقاصي والداني الذي يشاهد ويتابع ويحلل ويشمت ويتنمر بنا وبمصر وبمقدراتها وبمنابع نيلها بعد أن تحول المصريون إلي بكائين شكايين يولولون عبر الفضائيات ينشرون غسيلهم قبل إضافة المسحوق ويكشفون عوراتهم ويتباهون بالفقر والجهل والفساد والرشوة والقمع بدعوي الحرية والشفافية فإذا بكل البرامج والتوك شو قد أصبحت عبارة عن محاكمة علنية للمجتمع وللمسئولين وللنواب في مجلسي الشعب والشوري بينما جميع المتهمين يقفون خارج القفص والحكام هم المذيعون والمعدون والضحية والقتيل الذي قد شوهت ملامحه وتاهت معالمه هو مصر وكرامتها وسيادتها بكل أسف وخزي وعار. الإعلام المصري يتباري في تعرية النظام والحكومة من منطلق أن الإعلام سلطة رابعة ولكن النتيجة هي حالة فوضي في الشارع والحياة المصرية لأنه لا جدوي من الحوارات والمحاكمات الإعلامية ولا مجيب لأصوات الاستغاثة المتكررة ليل نهار عن حالة الفوضي في كل أوجه الحياة بداية من المرور الذي خنق الاقتصاد ودمر العلاقات الأسرية وحول الشارع إلي حلبة مصارعة مفتوحة وغابة بشرية غير إنسانية يتحرك فيها الإنسان المصري بمنطق القوة والصدام والصراخ. والبعض في حالة توهان وإدمان والآخر في وضع اللامبالاة والكثير في غضب محموم انعكس علي العمل والدراسة والأداء والتعامل مع الجمهور في المصالح الإدارية والخاصة. كذلك أثرت برامج الإعلام التي تنشر القضايا وتعرض لحالة الفساد والتروي والعشوائيات في سلوك المصريين الذين وصلوا إلي قناعة أنه لا تغيير وأنه لا قانون ولا سلطة تشريعية وإنما المحسوبية والواسطة والمال والقوة هي الملاذ والمحك في أي صراع وفي أي طموح للإنسان. ومن ثم فالطالب يعتمد علي واسطة أو درس أو غش والعامل يستخدم الفهلوة والنصب والتاجر يحتكر ويحتال ويشهر سكاكينه ويكشر عن أنيابه والموظف يماطل ويلاوع ويرتشي والصحفي يمسك القلم ليهدد ويتوعد وقد يبتز والمثقف أنعزل وأغترب وأبتعد والمتدين والملتزم كما يدعي أتجه للعبادات وللتشدد وللمغالاة ففصل بين الدين وطقوسه والحياة ومقوماتها وأولوياتها والأخلاق والمحامي أمتطي صهوة الكلام وأشهر سيف البلاغة ليصل إلي أهدافه ولو علي جثة الحق والعدل. والطبيب نسي الحكمة وتذكر تذكرة داود وأسعارها والمهندس عمل مناولا في بيع الأراضي وتسقيعها والحكومة ووزراؤها يصدرون تصريحات كأنها من عالم تاني وفي دولة أخري وعن شعب يعيش في أحد الكواكب البعيدة. ومن هنا تظاهر واعتصم عمال وموظفون ومعاقون ومدرسون وأساتذة وأطباء وطالبوا بزيادة الراتب، وهددوا بالإضراب عن الطعام ثم بالانتحار الجماعي والعالم من حولنا يرصد ويصور ويعلق علي دولة لا تعرف كيف تلبي أبسط مطالب مواطنيها. والإعلام وبرامجه ينشر ثقافة التسول ويتباهي الإعلاميون بعرض حالات الفقر والعجز والمرض والجوع والعوز والحاجة عبر الشاشات ويطلبون الإحسان والرحمة والعلاج والشقة ومصاريف الفرح وعشاء العيال وهدمتهم! لكان كل تطوير في مدرسة أو مستشفي أو قرية أو منطقة عشوائية يجب أن يأتي عن طريق التسول ومد الأيدي والأعين علنًا دون أي خجل من قبل دولة عريقة عظيمة كمصر. وما يحدث لنا في قضية منابع النيل ومشكلة المياه هو نتاج لما وصلت إليه صورة مصر التي أسهمنا في تشويهها وإهانتها أمام العالم أجمع فليست مصر بهذا الضعف والقهر والهوان الذي يجعلها تتسول كل الأشياء داخليًا وخارجيًا. بل ويسخر الإعلاميون والساسة من المتظاهرين والمعتصمين الذين يطالبون بزيادة رواتبهم ويتهمونهم بأنهم مشغولون بالحالة الاقتصادية وليسوا مهتمين بالوضع السياسي. لم يقدم الإعلام في الفترة الأخيرة سوي فقرة غير عادية عبر برنامج من قلب مصر للميس الحديدي عن البطل الذي فقد ذراعه وقدميه وعينه وأصيب بجرح في ظهره أيام حرب الاستنزاف عام 1969 ومع هذا مازال معتزًا بولائه لمصر واستعداده لبذل المزيد من أجل رفعتها وترابها وحريتها ولو عاد به الزمان لفعل وأعطي وطنه مصر المزيد فهي أكبر لديه من روحه وجسده، ذلك الشهيد الحي عبدالجواد محمد هو رمز الكرامة المصرية وليس سليل شعب يمد يده ليتسول رغيف العيش ولقمة تسد الرمق، ورشفة ماء من نيل كان يومًا يهب مصر الحياة وشعبها الفخر والكرامة.