ليس سرا أن د. طه حسين هو أشهر معاق في تاريخ مصر - بل والعالم العربي - الحديث! والأغرب أن عميد الأدب العربي د. طه حسين لم يعتبر إعاقته وفقده لبصره محنة إنما اعتبرها آفة من الآفات الكثيرة التي تعرض لبعض الناس في حياتهم فتؤثر فيها تأثيرا قويا أوضعيفا! لقد تابعت وشاهدت وقرأت احتجاجات واعتراضات واعتصامات المعاقين أمام مجلس الشعب - ولعل أهمها ذلك الملف المتميز الذي نشرته «روزاليوسف» - المجلة - في عددها الأخير بعنوان «اعتصام المعاقين ضد الاعاقة» عبر 12 صفحة، ولعل أكثر ما لفت انتباهي تلك اللافتة التي رفعها بعض المحتجين من المعاقين وفيها جملة ذات دلالة تقول «الحكومة والزمان علينا.. إمضاء معذب»!! العبارة صحيحة وصادقة وصادمة أيضا، فنحن نتكلم كثيرا ونفعل قليلا نحن الذين أصدرنا القوانين لانصافهم، ونحن أيضا الذين لا ننفذ هذه القوانين، وكأن كل ما نملكه هو الكلام المزوق الذي لا معني له، كما هو الحال في عشرات المجالات!! ولو قرأ طه حسين عبارة «الحكومة والزمان علينا» - وهو صحيح - لكان له رأي آخر وهو ما عبر عنه بصدق وبساطة في المقدمة البديعة التي كتبها خصيصا عام 1954 بمناسبة صدور طبعة خاصة من كتابه الأشهر «الأيام» للمكفوفين!! كتب د. طه حسين عميد الأدب العربي يقول في هذه المقدمة التي كشف عنها للمرة الأولي زوج ابنته د. محمد حسن الزيات «وزير خارجية مصر ونشرها مع إعادة طبع الأيام بأجزائها الثلاثة في مجلد واحد «عن مركز الأهرام للترجمة والنشر» عام 1992 يقول: «ليس أحب إلي نفسي ولا أحسن موقعا في قلبي من أن يقدم هذا الكتاب إلي زملائي وأصدقائي في هذه المحنة ولا أري فيها قسوة أو شيئا يشبه القسوة، وإنما هي آفة من الآفات الكثيرة التي تعرض لبعض الناس في حياتهم فتؤثر فيها تأثيرا قويا أو ضعيفا والذين يقرأون هذا الحديث من المكفوفين سيرون فيه حياة صديق لهم في أيام الصبا تأثر بمحنتهم هذه قليلا حين عرفها، وهو لم يعرفها إلا شيئا فشيئا حين لاحظ ما بينه وبين إخوته من فرق في تصور الأشياء وممارستها. وقد تأثر بهذه المحنة تأثرا عميقا قاسيا لا لشيء إلا لأنه أحس من أهله رحمة له واشفاقا عليه، وأحس من بعض الناس سخرية منه وازدراء له ولو قد عرف أهله كيف يرعونه دون أن يظهروا له رحمة أو إشفاقا، ولو قد كان الناس من رقي الحضارة وفهم الأشياء علي حقائقها بحيث لا يسخرون من الذين تعتريهم بعض الآفات، لا يرثون لهم ولا يظهرون لهم معاملة خاصة يتكلفونها تكلفا، ولو قد كان من هذا كله، لعرف ذلك الصبي وأمثاله محنتهم في رفق، ولا ستقامت حياتهم بريئة من التعقيد كما تستقيم لكثير غيرهم من الناس!! ويمضي د. طه حسين شارحا وموضحا درسه البليغ من محنته فيقول: «والحمد لله علي أن هذا الصبي لم يستسلم للحزن ولم تدفعه ظروفه إلي اليأس وإنما مضي في طريقه كما استطاع أن يمضي محاولا الخير لنفسه وللناس ما أتيح له أن يحاول من الخير وما أكثر الذين قهروا هذه المحنة خيرا مما قهرها«!!» وانتصروا عليها خيرا مما انتصر عليها «!!»، وقدموا لأنفسهم وللناس أكثر وأنفع وأبقي مما قدم، ولكن كل إنسان ميسر لما خلق له، لا يبذل من الجهد إلا ما تبلغه طاقته. وأنا أتمني أن يجد الأصدقاء المكفوفون في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة كما وجدت في إملائه وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعا لهم علي أن يستقبلوا الحياة مبتسمين لها كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس، جادين فيها لينفعوا أنفسهم وينفعوا غيرهم متغلبين علي ما يعترضهم من المصاعب وما يقوم في سبيلهم من العقبات بالصبر والجهد وحسن الاحتمال وبالأمل المتصل والرجاء الباسم!! فالحياة لم تمنح لفريق من الناس دون فريق، وحظوظها من اليسر والعسر، ومن الشدة واللين ليست مقصورة علي المكفوفين وأصحاب الآفات دون غيرهم من الناس ولو قد عرف الإنسان ما يلقي غيره من المصاعب وما يشقي به غيره من مشكلات الحياة لهانت عليه الخطوب التي تعترضه ولعرف أن حظه خير من حظوظ كثير من الناس وأنه في عافية مما يمتحن به غيره من الأشقياء والبائسين علي ما أتيح لهم من الصحة الموفورة ومن عام الآلة واعتدال المزاج واستقامة الملكات. ثم يختتم د. طه حسين كلامه ودرسه البليغ قائلا: والمهم هو أن يلقي الإنسان حياته باسما لها لا عابسا، وجادا فيها لا لاعبا وأن يحمل نصيبه من أثقالها ويؤدي نصيبه من واجباتها ويحب للناس مثلما يحب لنفسه، ويؤثر الناس بما يؤثر به نفسه من الخير ولا عليه بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف وأن يرضي الناس أو يسخطوا، فنحن لم نخلق عبثا ولم نترك سدي ولم نكلف إرضاء الناس عنا، وإنما خلقنا لنؤدي واجباتنا وليس لنا بد من تأديتها، فإن لم نفعل فنحن وحدنا الملومون وعلينا وحدنا تقع التبعات». مثل هذا الكلام الجميل والدرس الرائع يعطيه لنا رجل فقد بصره ولم يفقد بصيرته، إنه باختصار يعطينا أعظم وأصدق روشته مؤداها ببساطة: لا تستسلم للحزن أو اليأس مهما كانت قسوة الظروف المحيطة بك سواء من صنعك أو صنع الأخرين، ولا تندم علي فعل الخير أبدا واستقبل الحياة مبتسما متفائلا! فقط هذا هو درس العميد طه حسين الذي أبصرنا بعيينه!