مما لا شك فيه أن المنظومة التعليمية تحتل مكانة مهمة في تحديد مسارات مستقبل الشباب بما ينعكس بشكل مباشر وقوي علي السلوكيات السائدة في المجتمع والمؤشرات حول آفاق المستقبل، ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلي التعقيدات التي تواجهها العملية التعليمية، خاصة في مراحلها الأولي، وطبيعة المهمة الملقاة علي عاتق وزارة التربية والتعليم في التعامل معها، الأمر الذي يدفعنا إلي تركيز الضوء علي بعض النقاط الرئيسية: 1- إن المقصود بضبط الإيقاع هو ضمان وجود تناغم بين مكونات المنظومة لتتضافر جميعا في إنتاج متكامل يحقق أهدافا محددة ومتفقا عليها مسبقاً، تتمثل في هذه الحالة في توفير التربية الصحيحة والتنشئة السليمة، وإرساء الأسس الصلبة لتعليم جاد يتسم بالدقة والموضوعية اللازمة لتمكين النشء والشباب من التعامل مع تحديات التطور السريع في وتيرة العلم، واكتساب المعرفة القادرة علي المنافسة في سوق العمل المحلية والخارجية. 2- بلغت الإشكاليات التي تحيط بالمنظومة التعليمية، خاصة المدارس، نقطة لا تحتمل التأجيل أو التراخي، وقد عكس ذلك الملفات العديدة التي طرحت نفسها علي الساحة خلال الأعوام القليلة الماضية، حاملة في طياتها مؤشرات سلبية خطيرة، من قبل ملف تسريب أسئلة الامتحانات خاصة في المراحل النهائية والحاسمة، وقضايا العنف المدرسي الذي تخطي ما يمكن أن نطلق عليه مجازا شقي "المعادلة المدرسية" المتمثلين في الطلاب والجهاز التعليمي، ليمتد إلي أولياء الأمور الذين يتحملون تبعات اضطراب الإيقاع ويترددون علي المدارس للسعي لإيجاد حلول له، دون أن يحالفهم التوفيق في كثير من الحالات. 3- وفرت الزيارات المفاجئة التي قام بها السيد وزير التربية والتعليم لبعض المدارس في الفترة الأخيرة فرصة لتركيز الضوء علي المشكلة وأبعادها المختلفة سواء ما تعلق منها بالبنية الأساسية أو درجة الانضباط أو المستوي التعليمي، أو حتي انعكاسات ما تتضمنه المناهج الدراسية من مفاهيم تربوية علي الواقع العملي، وكان المثل الخاص بالدروس التي تحض علي النظافة صارخا، ففي الوقت الذي يتم فيه تلقين التلاميذ والطلاب هذه الدروس دون التركيز علي المضمون في المرحلة الابتدائية، تتراكم القمامة في الفصول الدراسية وأروقة المدارس بفعل نفس الطلاب الذين يجتازون امتحانات تتضمن أسئلة وموضوعات تعبير عن النظافة وواجبهم للحفاظ علي البيئة. 4- أن عملية ضبط الإيقاع تمتد لتشمل العديد من الجوانب التنظيمية والبنيوية والتربوية والوظيفية والمهنية، بما يجعلها غاية التعقيد، الأمر الذي قد يتطلب تشكيل لجنة محايدة متعددة التخصصات تكلف بوضع استراتيجية متكاملة للتعاطي مع مشكلات منظومة تتصف ليس فقط بأنها مترامية الأطراف وواسعة الانتشار، ولكن أيضا باستمرارية وديمومة تقاطعها مع جميع أفراد الشعب بمختلف قطاعاته بشكل أو آخر، كما أن لمضمونها وانتظامها آثارا عديدة علي حاضر المجتمع ومستقبله. 5- تثير عملية ضبط الإيقاع تحركا يتخطي الجانب الشكلي المتصل بالانتظام والانضباط والالتزام بالمواعيد، فعلي الرغم من أهمية هذا الجانب في تحقيق الهدف المطلوب، إلا انه يظل هامشيا مقارنة بالمضمون والقدرة علي مخاطبة العقول وتشكيلها، وفي هذا السياق تبرز قضية العنصر البشري الذي يتولي رسالة إعداد شباب المستقبل وغرس قيم وأخلاقيات وسلوكيات تهدف لتشكيل شخصية سوية بعيدة عن الانفصام بين الوضع المثالي والحقيقة القائمة، أو بين النص المكتوب والواقع المُعاش. وعلي الرغم من كل ما يمكن أن يقال حول ملف الدروس الخصوصية، وخلفياته، فإنه ما هو إلا انعكاس لخلل في كفاءة الأداء من جانب، والظروف الاقتصادية للعاملين بمهنة التدريس من جانب آخر. وإذا كان الطرح الخاص بالكادر التعليمي قد انطلق من مفهوم الكفاءة ورفع المستوي الاقتصادي، فإن الواقع العملي يثبت أن هناك معارضة داخلية لهذا التوجه انطلاقا من مقولة أن العائد المنتظر من هذا المشروع أقل بكثير من المزايا التي يحققها استمرار الوضع علي ما هو عليه، وبعبارة أخري استمرار ظاهرة "تجارة" التعليم علي حساب مقولة "رسالة" التعليم. 6- وعلي صعيد آخر يبرز التناقض بين الجانب الشكلي والموضوعي فيما يتصل بالأنشطة الرياضية والاجتماعية بالمدارس والتي تجد مكانها بشكل مثمر علي الجداول الدراسية دون أن تكون لها ترجمة جادة علي أرض الواقع، الأمر الذي ينعكس علي الجانب الصحي للطلبة المثقلة ظهورهم بحقائب مدرسية ضخمة تضم جميع الكتب المقررة وملحقاتها الأخري، والذين تتم معاقبتهم لعدم إحضارها. 7- علي الرغم من دفع مسئولي وزار التربية والتعليم، علي الأقل في المرحلة السابقة، بأن المناهج الدراسية تتضمن العديد من مفاهيم حقوق الإنسان، وهو ما تم شرحه في كتيب خاص قام كاتب هذا المقال بالاطلاع عليه يتضمن توزيع هذه المفاهيم علي الفصول الدراسية المختلفة، إلا أن الواقع العملي لطلاب المدارس، والفعلي بين صفوف طلاب الجامعات، بل والشباب بصفة عامة، يظهر الخلل بين الفلسفة التي يتضمنها هذا الكتيب والتنفيذ الفعلي لها، والذي يقتصر علي أسلوب التلقين والحفظ، ويبتعد عن أساليب الحوار والتفاعل التي يمكنها وحدها تكريس المفاهيم لتنعكس بعد ذلك علي أنماط السلوك والتفاعل مع الآخرين. وليس أدل علي ذلك من أن مناهج المرحلة الابتدائية لا تتضمن أية إشارة عن حقوق الطفل في حين أن المستهدفين هم الأطفال، كما أن ما تتضمنه فصول المرحلة الإعدادية من عناصر لمفهوم المواطنة يقتصر الأمر علي تلقينها وحفظها بهدف اجتياز الامتحانات، ويكون من الصعب علي الطلاب بعد ذلك تذكرها، وبعبارة أخري، فإن عملية غرس المفاهيم في النفوس، وهي الأكثر أهمية، قد تمت تنحيتها جانبا لصالح عملية أخري، تأتي في مرحلة أدني في سلم الأولويات التربوية، تتمثل في اجتياز الاختبارات فقط لا غير. 8- تثير قضية ضبط الإيقاع إشكالية تأهيل المدرس بحيث تتوافر فيه صفات التخصص في المادة وامتلاك القدرات التعليمية المناسبة، وتفعيل دور الموجه الذي يرصد نقاط الضعف ويسعي إلي تقويمها، وتقوية الأجهزة الرقابية التي تتابع مسار العملية التعليمية بجوانبها المختلفة، وإذا كانت الزيارات الميدانية الأخيرة للسيد الوزير قد أسفرت عن خلق حالة من الاستنفار في صفوف المدارس تحسبا للمزيد منها، مما قد يوفر درجة من درجات الانضباط الخارجي علي الأقل لفترة محدودة، فإن المشكلة تظل أكثر عمقا من ذلك، ويتطلب التعامل معها الكثير من الجهد علي جميع المستويات الإدارية والفنية، من خلال خطط عمل مرحلية تتضافر جميعا في توفير البيئة الصالحة والقادرة علي ضبط الإيقاع وتحقيق الأهداف المرجوة والأصيلة بما يعيد الثقة في المنظومة التعليمية من جانب، ويساعدها علي المساهمة في إعداد الشباب لمواجهة تحديات العصر بشخصية قوية بعيدة عن الازدواج أو الخوف من العقاب وإنما واثقة بنفسها ومسلحة بالعلم والأخلاق المكتسبين من الأسرة أولا والمؤسسة التعليمية ثانيا من جانب آخر. وفي الخاتمة يمكن القول أن ضبط إيقاع المنظومة التعليمية هو واجب قومي يتصل بشبكة واسعة من الحقوق تبدأ من حقوق الطفل وفي مقدمتها الحق في التعليم، وحق المعلم في معيشة كريمة، وحق الأسرة في عدم استنزاف مواردها، وحق المجتمع في استثمار موارده البشرية الشابة بشكل يحقق الصالح العام ولا يتسبب في تضخيم المشاكل التنموية القائمة.