أدخل صالات العرض السينمائي دائما وأنا في حالة من السعادة والابتهاج لأن مشاهدة الأفلام الأولي في الطفولة ارتبطت بالأعياد والمناسبات السارة، ولكن ما إن يبدأ العرض حتي تطرأ علي حالتي تغيرات نفسية وفسيولوجية حسب نصيب الفيلم من الجودة أو الرداءة، إذا كان الفيلم جيدا أو رائعا وانتهز فرصة الاستراحة بتسجيل نقاط أو إشارات عن الفيلم في نوتة صغيرة واستعجل عودة العرض لاستكمال المتعة. أما إذا كان الفيلم متواضعا فلن يكون هناك مفر من الخروج أثناء الاستراحة حتي «أطُسّ وشي» بالماء خوفا من الاستسلام للنوم، وبعد انتهاء المشاهدة تبدو التغيرات السلبية والايجابية أكثر وضوحا مع الأفلام الجيدة أخرج واضح السعادة وكأنني ربحت الملايين، أما في الأفلام الرديئة فأخرج مكتئبا كأنني أغادر سرادق عزاء، أو غاضبا أضرب كفا بكف وأكلم نفسي بصوت عال أو مجهدا كأنني خارج لتوي من علقة ساخنة أو تائها أبحث عن الشارع مثل طفل فقد أمه في المولد! ولقد شوهدت مؤخرا وأنا أعاني من هذه الحالات الأخيرة مختلطة ومجتمعة إثر خروجي من مشاهدة فيلم «قاطع شحن» الذي كتبه أسامة رءوف في تجربته الأولي وأخرجه «سيد عيسوي» في تجربته السينمائية الثانية بعد فيلم «بحبك.. وبموت فيك»، تقريبا لا يوجد عنصر واحد من عناصر العمل يخلو من ملاحظات ومشكلات واضحة، ولو وقفت عند كل التفاصيل لكتبت ما يستوعب عددا خاصا من «روزاليوسف»، ولكن الاسئلة التي طاردتني أثناء وبعد المشاهدة أهم بكثير من الفيلم نفسه، أريد أن أسأل صناع العمل كيف «جالهم قلب» ليصوروا سيناريو هزيلا بمثل هذا الشكل علي شريط 35 مللي في حين يحارب عشرات الموهوبين لتصوير أعمالهم بكاميرات الديجيتال الصغيرة؟! كيف أيضا وافق أساتذة التوزيع علي عرض «قاطع شحن» المتواضع في الصالات لينافس فيلم «داود عبدالسيد» «الهام» و«رسائل البحر» وليخوض صراعا مع أفلام أجنبية مهمة مثل «آفاتار» للمخرج «جيمس كاميرون»، و«جزيرة شاتر» للمخرج «مارتن سكورسيزي» و«تسعة» للمخرج «روب مارشال». عرض الفيلم بهذه الجرأة وسط هذه الأعمال ليس في صالح صناعه ولا في صالح الفيلم المصري عموماً الذي «ماصدقنا» إن الجمهور عاد إليه بعد أن انصرف عنه إثر انتشار أفلام المقاولات، وربما كان الأفضل عرض «قاطع شحن» - من برة برة - علي الفضائيات ليمر بدون استفزاز للذين تكبدوا عناء النزول من بيوتهم للمشاهدة في الصالات. رغم كل هذه الديباجة الطويلة، لا مفر من أن أعطيك فكرة عن العمل الذي سيرد صناعه بالتأكيد بأنهم يناقشون مشاكل الشباب، وبأنهم يضعون أيديهم علي نبض الشارع المصري، وكلام كبير من هذا الطراز رغم أن ما شاهدناه لا يعدو محاولة بدائية لصنع فيلم تجاري لا يمكن مقارنته حتي بأفلام الأبيض والأسود، علي الأقل كانت هذه الأفلام - ورغم بساطة الحواديت - تحفل بالمواهب في كل عناصر الفيلم من صورة «وحيد فريد» و«عبد الحليم» نصر إلي حوار «أبو السعود الإبياري» الذي أصبح محفوظاً إلي الأغنيات الظريفة التي كتبها «فتحي قورة» ولحنها «منير مراد» أو «عزت الجاهلي»، حتي الذين يمثلون الأدوار المساعدة ولو لمشهد واحد لا يمكن أن تنساهم أبداً، واذكرك هنا بالممثلين الرائعين اللذين قدما دور الشماشرجي ودور الشخص الذي يعتني بالطلاب في «غزل البنات» أمام العملاق «نجيب الريحاني». أما «قاطع شحن» فهو صورة مجسدة للاستخفاف وللسطحية وللركاكة في كل عناصره تقريباً، وتخيل مثلاً أن الفيلم يحمل هذا الاسم القادم من زمن الموبايل لمجرد أن والد أحد أبطاله يتصل بابنه فلا يرد الابن عليه لأن تليفونه المحمول «قاطع شحن»، وتخيل أن معاناة الجيل سيمثلها اثنان من الممثلين الذين يتعلمون التمثيل فينا هما «عمر حسن يوسف» الذي ظهر في «شارع 18» وقرر أن يستكمل المسيرة في «قاطع شحن»، و«شادي شامل» الذي قام بدور «عبد الحليم حافظ» في مسلسل «العندليب»، ثم قرر أن ينطلق سينمائياً لعل وعسي، والاثنان لا يستطيع «فيللني» شخصياً - لو بعث حياً - أن يستخرج منهما أكثر مما شاهدناه، وعلي الجانب النسائي لدينا المغنية «شذي» في تجربتها التمثيلية الأولي، واثنتان أفضل حالاً هما «ياسمين جيلاني» - وهي ممثلة جيدة جدًا وفقًا لما شاهدته منها في فيلم «ليلة في القمر»، ولكنها تتراجع هنا إلي ممثلة عادية وضيفة شرف، و«إيمان سيد» التي تكرر نفسها رغم إمكانياتها الكوميدية لأنها تريد تعويض غياب «عائشة الكيلاني» بأداء أدوار المرأة التي تبحث عن عريس. أما الحدوتة فهي عجيبة حيث تبدأ اجتماعية تحاول أن تكون مضحكة لتنتهي بوليسية تحاول أن تكون مُرعبة! «فايز» (عمر حسن يوسف) سييء الحظ ويبحث عن عمل، يقول أحيانًا أنه لا يعرف ماذا يريد، و«كريم» (شادي شامل) يوفر نقودًا للسفر إلي الخارج ولذلك يوصف بالبُخل، «فايز» يحب الكوافيرة خريجة التجارة «رشا» (شذي) الغارقة في الأحلام، و«كريم» يحب «هند» (ياسمين چيلاني) التي تعمل كوافيرة أيضًا، وزميلتهما الثالثة «جمالات» (إيمان سيد) لا دور لها لأنه لا يوجد صديق ثالث ل«فايز وكريم» لذلك سيقتصر دورها علي الإضحاك أو الاستظراف. يفترض أن ينتهي الفيلم بمجرد عثور «فايز» علي عمل كسائق عند سيدة عجوز، وعثور «كريم» علي عمل كشاب يوصل الطلبات من أحد المطاعم، ولكن الفيلم الروائي لابد أن يكون طويلاً لهذا سيظهر والد «فايز» الذي يلعبه «محمود الجندي» وهو طباخ قديم يبحث عن عمل بعد فصله (!!) وتظهر جدّة «فايز» (التي تلعبها «ميمي جمال» والتي تردد طوال مشاهدها المحدودة: «اتصل بفايز.. أنا قلبي واكلني عليه» وتظهر «ميمي جمال» لكي تتعارك مع الكوافيرات بطريقة مفتعلة حتي تترك الصديقات الثلاث العمل، ويظهر «لطفي لبيب» بأدائه النمطي المكرر ليتعرف ب«فايز» و«رشا» بالصدفة وبطريقة لا تجدها إلا في أفلام الثلاثينيات. فجأة ستظهر لدي «فايز» موهبة الرسم والنحت التي اكتشفت بعد مرور وقت معتبر من الأحداث، وسنكتشف أيضًا أن «رشا» بتفهم في التسويق لأنها خريجة تجارة، كل هذا لكي يعمل «فايز» و«رشا» مع رجل الأعمال «لطفي لبيب» الذي نكتشف أيضًا أنه يهرب مخدرات، وفي فوتو مونتاج، مضحك نشاهد الشباب الناهض يصنع الانتيكات بل وسجاد الحرانية اليدوي، ويظهر مزيد من الشخصيات مثل «نجوي» زوجة رجل الأعمال بأداء «چيهان قمري» و«عبدالله مشرف» صديقه، ويطلب رجل الأعمال من الفنان «فايز» تقليد تمثال فرعوني، وعندما يعود «فايز» إلي مراجعه الأثرية يكتشف أن التمثال أصلي، ولا أعرف كيف اكتشف ذلك من مجرد النظر إلي صورة، المهم أنه يتورط في صنع التمثال، وعندما يذهب به إلي فيللا رجل الأعمال يكتشف مقتله، ثم يتورط «فايز» في ضرب حارس الفيللا الذي يسقط علي الأرض! في الجزء الأخير من هذه «الملحمة» سيظهر شخص اسمه «خالد» يتعرف علي «رشا» و«كريم» عند هروبهما حيث يعيشان في إحدي الفيللات، ويتسع هذا الجزء لأغنية لشادي شامل يغنيها في «الديسكو»، ويظهر البوليس المصري ليقبض علي الجميع لتفجير مفاجأة الفيلم العظمي حيث تعاون «فايز» مع الأمن لأن الآثار ملك البلد والأجيال القادمة، وحيث نكتشف أن «لطفي لبيب» لم يمت، وأنه عليه أحكام ويريد السفر للخارج، ولا أعلم علاقة ذلك بتجارته للآثار، وحيث يظهر البواب حيا يرزق، وحيث تغني «شذي» في شوارع وسط البلد الخالية من المارة، وحيث ينقطع الشحن والفن والعقل معًا! كل العناصر الفنية في مستوي أقل من الحد الأدني، يكفي أن أشير إلي هذه القطعات العجيبة التي تبتر المشهد وتزعج البصر، ويكفي أن أشير إلي حركة الكاميرا الصاعدة والهابطة دون أي معني حيث تظهر فروع الأشجار أمام الممثلين كتعبير رمزي عميق لم أفهم مغزاه ويكفي أن أحدثك عن موسيقي «محمد ضياء» التصويرية التي بدت في بعض اللحظات كمقدمة موسيقية تنتظر دخول صوت «أصالة»، أما عن أداء الممثلين خاصة «عمر» و«شادي» و«شذي» فهو أقرب إلي أداء أصدقائنا وزملائنا في المسرح المدرسي، وقد انتهي الحال بهؤلاء الزملاء إلي العمل في أي شيء إلاّ في مجال التمثيل!