في مقدمة كتابه الأخير، ما هي الفلسفة، يقول جيل دولوز لنفسه: لعلي أتمكَّن من طرح السؤال، حين تُقبل الشيخوخة، وساعة الحديث بطريقة ملموسة، غير أن مراجع السؤال قليلة، وأنا أطرحه في اضطراب خفي خلال منتصف الليل، عندما لم يعد لدي موضوع يستدعي السؤال. فيما مضي كنتُ أطرحه باستمرار، ولا أكف عن طرحه، بطريقة مباشرة، أو جانبية، شديدة الاصطناع، بالغة التجريد. كنتُ أعرضه، وأسيطر عليه، عابراً به، أكثر مني مأخوذاً به، ولم يسعني التدقيق فيه كفايةً. كنتُ شديد الرغبة أنا الفيلسوف في إنتاج ما يعود إلي الفلسفة، دون أن أسأل نفسي عما كانت عليه إلا في إطار ممارسة أسلوبية، فما كان لي أن أبلغ هذه النقطة من اللاأسلوب، وأتحرر منه، بحيث يمكنني القول أخيراً: ماذا كان عليه ذلك الشيء الذي قمتُ به طيلة عمري؟ وعلي الرغم من أن كتاب، ما هي الفلسفة، يحمل توقيع جيل دولوز وفليكس غاتاري إلا أنني أعتبر المقدمة والكتاب كله لجيل دولوز، ولا تتعدي مُشارَكة فليكس في الكتاب سوي كرم الصداقة، والصديق هو هذا الشخص الذي يشهد علي حب ما، حب دولوز ربما. صداقة غاتاري تتجه إلي دولوز، بينما صداقة دولوز ماتت لحساب الفلسفة. الصديق هو الحكيم، محب الفلسفة، بينما الفيلسوف هو مبدع مفاهيم. يفكِّر الحكيم عن طريق الصورة، في حين يبتكر الفيلسوف المفهوم. علي هذا تشبه مُشارَكة غاتاري في كتاب، ما الفلسفة، مُشارَكة مساعد المخرج في السينما. من الصعب معرفة ما يعنيه الصديق، هل يعني الصديق نوعاً من الحياة الحميمية، نوعاً من الجمع علي سبيل المثال بين النجَّار والخشب. هل كان النجَّار الجيد هو الخشب بالقوة، هو الصديق للخشب؟ هل كان غاتاري ينتظر لمسة التشكيل من دولوز؟ الصديق كما يبدو في الفلسفة اليونانية، لا يعني شخصاً خارجياً، مثالاً أو ظرفاً تجريبياً، وإنما يفيد الصديق حضوراً داخل الفكر، شرطاً لإمكانية الفكر ذاته. لقد أجبر اليونانيون الصديقَ علي تجاوز العلاقة مع الآخر إلي علاقةٍ مع كليةٍ وموضوعيةٍ، علاقة مع ماهية، علي الرغم من أن اليونانيين لم يكن عندهم اعتراض أخلاقي علي ميلٍ شبيه بميل الصديق فيلكس غاتاري. ما معني الصديق حين يصبح شخصية أو شرطاً لممارسة الفكر؟ أو عاشقاً، أليس هو بالفعل عاشقاً؟ ألا يعني ذلك أن الصديق سوف يدْرِج علي الرغم من الفكر، علاقةً حيوية مع الآخر الذي اعتقدنا اقصاءه من كل فكر خالص؟ أوَ لا يتعلق الأمر بكائن آخر غير الصديق والعاشق؟ لأنه إذا كان دولوز هو صديق الفلسفة أو عاشقها، أفليس ذلك يرجع إلي كونه يدَّعي هذا الأمر ببذل مجهود علي مستوي القوة بدل امتلاك القوة بالفعل؟ ولم نسمع يوماً في وقائع حياة دولوز أنه قام فعلاً بتشكيل أخشاب غاتاري العذراء، أو ضرب فيها إزميلاً، أو كحت بفارةٍ عقدةً عن نسيجها. ألن يكون الصديق هو الراغب، والموضوع الذي تحصل عليه الرغبة هو الذي سيقال عنه إنه الصديق، وبهذا يمكن للصداقة أن تنطوي علي حذر تنافسي مقابل الند، بقدر ما تنطوي علي نزوع عشقي نحو موضوع الرغبة، فيغدو الصديقان حينما تتحول الصداقة نحو الماهية، بمثابة الراغب والمنافس، لكن مَنْ سيميز بينهما؟ بل مَنْ سيميز بين النجَّار والخشب، وهل سيكون وجود النجَّار يستدعي آلياً ضمير النسبة؟ أي هل نستطيع أن نقول: النجَّار وخشبه. تجعل الفلسفة اليونانية الأصدقاء في علاقات تنافس في الحب وفي الألعاب وفي المحاكم وفي مجالس القضاء وفي السياسة وحتي في الفكر الذي لن يجد قضيته في الصديق فحسب، وإنما في الراغب والمنافس. إن الصديق والعاشق والراغب والمنافس تحديدات متعالية، ولا يفقدها هذا وجودها المكثف الحيوي داخل شخص واحد أو أشخاص متعددين، وحينما يقوم موريس بلانشو الذي ينتمي إلي المفكرين القلائل المهتمين بمعني كلمة صديق في الفلسفة، بإعادة النظر في هذه القضية الداخلية لشروط التفكير بما هو تفكير، ألا يدرِج شخوصاً جديدة في الفكر، شخوصاً قليلة الانتماء هذه المرة إلي اليونان، أتت من مكان آخر، كما لو أنها اجتازتْ كارثة تجرها نحو علاقات حية جديدة، تجرها نحو تحويل اتجاه، نحو شيء من العياء، نحو قدر من الخيبة بين الأصدقاء، بحيث تتحول الصداقة ذاتها إلي مفهوم، فليستْ لائحة المفاهيم مغلقة أبداً. إن الفيلسوف صديق المفهوم، إنه بالقوة مفهوم، ومفاد هذا أن الفلسفة ليستْ مجرد فن تشكيل وابتكار وصنع المفاهيم، ذلك أن المفاهيم ليستْ بالضرورة أشكالاً. إن الفلسفة بتدقيق أكبر، هي الحقل المعرفي القائم علي إبداع المفاهيم، فهل يمكن للصديق أن يغدو صديق إبداعاته الخاصة؟