منذ خمسة عشر عاما مضت قررت أن أخرج من دائرة الصراعات السياسية والمجتمعية وأخوض المعركة مع ذاتي تلك المعركة التي أجلتها كثيرا مختفيا خلف تلال طموحي السياسي أو الاقتصادي أو المهني.. ووضعت نصب عيني الصراع مع الذات وزهدت الدنيا وما فيها من صراعات، واستطعت أن اتجاوز الرغبة في التفرد المهني وانتقلت إلي نقل الخبرة ومساعدة شباب وشابات يخطون خطواتهم الأولي في شارع الصحافة وبلاط صاحبة الجلالة عبر مراكز التكوين الصحفي سواء في صحيفة وطني أو في جمعيات ومراكز الجزويت الثقافية.. وبدأت أشعر بنشوة هؤلاء الشباب وهم يزهون بأسمائهم التي تسبق ابتسامتهم من خلال سطور موضوعاتهم الأولي وعرفت طعم تلك الفرحة البكر التي لم اتذوقها في بدايتي الصحفية لأن ارتباطي المبكر بالسياسة جعل قضية جيلي «جيل السبعينيات» أكبر من أسمائهم وذواتهم.. وحتي من أراد من هذا الجيل أن يعمل بالصحافة كان لابد عليه أن يتواضع ولا يحلم بأن يتخطي أساتذته الذين كانوا من أمثال: محمد حسنين هيكل، وأحمد بهاء الدين، وعبدالرحمن الشرقاوي، وصلاح حافظ، ومصطفي بهجت بدوي، وأنيس منصور، ولطفي الخولي، ومحمد سيد أحمد، وفيليب جلاب، ومحمد عودة، ومحمود السعدني، وموسي صبري ومصطفي أمين، وغيرهم، بل إن شباب الصحفيين حينذاك كانوا صلاح عيسي وعادل حمودة وعبدالقادر شهيب وجلال عارف ورشاد كامل وآخرين رحم الله من رحلوا وأطال الله في أعمار من علي قيد الحياة منهم. وكان الوطن.. كل الوطن ينوء بكاهله عبء جراح الهزيمة 1967 وانكسار الحلم الناصري والتضحية بكل شيء في سبيل تحرير الأرض. وكان الشعار السائد لا شيء يعلو علي صوت المعركة.. وتآخي القلم مع البندقية.. وكانت مصادر المعلومات شحيحة وما يلتقطه القلم منها كان عليه أن يتخطي حاجز الرقابة والموضوعية أو الذاتية التي كانت تقبع في اللاوعي الصحفي والإنساني ولكن أبناء هذا الجيل تمرسوا وتربوا أفضل تربية صحفية.. رغم كل ذلك لأن ارتباط قضية الوطن بالقلم علمت كل هؤلاء قيمة العلم والنشيد وروح الأرض وطعم النضال ولون الجنة التي تطل من بين عيون الشهداء.. حيث كان الدم هو المداد الحقيقي، ولذلك فقد كانت الكلمة لا تقدر بثمن وربما كان حينذاك الموقف هو الحياة والسبق الصحفي يرتكز علي التضحية والايثار. وما أن عبر جنودنا البواسل شط القناة وحققوا المستحيل وتخطوا الحواجز «المائي وخط بارليف» إلا أننا لم نستطع أن نتخطي حاجز الهزيمة حتي الآن!! لذلك حينما انظر إلي شباب الصحفيين الآن الذين يغلب عليهم روح الانتصار لأنهم لم يعرفوا روح الهزيمة ولم يجرعوا مثلنا مرارة كأس الانكسار. كذلك فإن ثورة المعلومات وتنوع مصادرها يحرر الأجيال الجديدة من أعباء كثيرة مهنية وسياسية ونفسية، لأن صحافة ما بعد النصر أفسدت علي جيلي فرحة الانتصار وذلك عبر دخول الصحافة معارك ضد التحديث الذي بدأ فيه الراحل السادات.. وكيف أدارت الصحافة الخلاف معه في الصحف وفي الشارع.. حتي صرنا جيلا لا يصدق الانتصار. ولذلك فإن من أبناء هذا الجيل سواء في الجماعة الوطنية أو الجماعة الصحفية في داخلها رفض لعملية السلام بعد أن تعدوا علي الحرب والتضحية، ويرفضون الانفتاح علي الغرب بعد أن تربوا علي أن الصديق هو الاتحاد السوفيتي والعدو هو الغرب الامبريالي! بل وكان البعض منا ضد التعددية الحزبية! والأغلبية لا تري فائدة من القطاع الخاص بعد أن كان القطاع العام هو الصنم الذي خيل لنا أننا لا نستطيع العيش بدونه. إلا أن جيلي كان ولازال يملك ربط الكلمة بالموقف. وربط الموقف بالتضحية والرغبة في التغيير.. وكانت المؤسسات الصحفية بالنسبة لنا بيوتات فيما أشبه بالعائلات العريقة، حيث كان الانتقال من مؤسسة إلي أخري يعني الانتقال من موقف إلي آخر.. وحينما ظهرت الصحف الحزبية تحددت الخنادق والمواقف والأنساب، وكانت نقابة الصحفيين هي البيت العائلي الكبير.. وكان دخول النقابة يعني لجيلي شهادة ميلاد جديدة، وللحديث بقية.