يبدو فيلم «The lovely Bones» أو «العظام الجميلة» تجربة مختلفة للوهلة الأولي مما يجعلها تستحق المتابعة والتركيز، ولكن بعد أن ندخل عميقًا إلي عالمه نكتشف أن حصاد التجربة لم يكن جيدًا. لقد أراد المخرج «بيتر جاكسون» صاحب ثلاثية «سيد الخواتم» لفيلمه أن يكون مزيجا بين عالمين من الصعب أن يتم دمجهما بسلاسة: عالم الروح وعالم المادة، عالم الخيال الواسع والفضاء اللا نهائي، وعالم الواقع الضيق المليء بالتفاصيل الدقيقة. سينما تتخيل عالما ما وراء الطبيعة ورحلة الروح الأبدية، وسينما بوليسية تقليدية تتناول جريمة مما تمتلئ به صفحات الجرائد، وبسبب هذا التأرجح أخذنا نصعد معه إلي السماء ثم نهبط من جديد إلي الأرض، ينفتح أمامنا عالم باتساع الملكوت وما وراء السحب ثم نجد أنفسنا من جديد داخل إطار ضيق. الفيلم الذي تتلخص اضافته في أنه يتابع رحلة روح معلقة بين السماء والأرض انتهي إلي أن يصبح هو المعلق بين السماء والأرض، فلا نحن أمام فيلم خيالي متقن وعميق، ولا نحن أمام فيلم بوليسي مكتمل، نحن - في الحقيقة - أقرب إلي ذلك المزيج المتنافر بين الزيت والماء مع أن الوعاء واحد، بين عالم ميتا فيزيقي يطرح تساؤلات وعالم بوليسي مهمته الاجابة وتقديم الأدلة المادية! بداية لست ضد الاستفادة من الأنواع المختلفة للأفلام، بل إنني كتبت باعجاب عن اثنين تلاعبا طوال الوقت بمختلف الأنواع هما الإسباني «بيدرو المادرفار» في فيلم «الأحضان المكسورة» والأمريكي «كونتين تارانتينو» في فيلم «أوغاد صعاليك»، ولكن الاثنين نجحا في أن يجعلا للفيلمين قواما متماسكا وشديد الجاذبية، أما بيتر جاكسون فقد تعامل مع فيلمه كما لو كان فيلمين أراد دمجهما معًا، الفكرة عن تلك الفتاة الصغيرة ذات الأربعة عشرة ربيعا التي يتم قتلها علي يد سفاح ذات ليلة وتحديدا في 6 ديسمبر عام 1973، ولكن روح الفتاة تصعد إلي السماء لتتابع، ما يحدث علي الأرض، وتحاول أن تتواصل روحيا مع والدها لكشف سر القاتل. الفكرة ليست جديدة فهناك أفلام كثيرة عن راحلين يعودون لكي يغيروا الأحداث، وفي فيلم «الشبح» بطولة «ديمي مور» كان الزوج الراحل «باتريك سوايزي» أكثر حضورًا من كثيرين، ولكن فيلم «العظام المحبوبة» يحاول أن يتوسع كثيرًا في عالم الروح، ويقدمه بصورة رائعة الألوان والتفاصيل، الحقيقة أنها صورة طفولية شديدة البراءة حيث تجتمع الفتاة القتيلة مع غيرها من ضحايا السفاح، هناك يلعبون ويمرحون وكأنهم في حديقة واسعة رغم أنهم مازالوا في المسافة الفاصلة بين الأرض والجنة، هذه الأجزاء هي أقوي ما في الفيلم علي المستوي البصري، وبدلاً من أن تتماسك مع الأجزاء الأرضية حيث يدور تحقيق كلاسيكي للكشف عن قاتل الفتاة، فإننا نشعر طوال الوقت أننا أمام عملين منفصلين لا يحققان أي إشباع علي الجانبين. لم ينتبه صناع الفيلم إلي أنهم يحاولون أن يضعوا الفيل في المنديل كما نقول، وأن هذه الانتقالات التي تتم بعد كل فترة بين ما هو متسع وما هو ضيق ستمنح المتفرج إحساسًا خانقًا حقيقيا يمكن أن تشتهيه بمن ينتقل من صحراء واسعة إلي خزانة ضيقة، ويظل السؤال مزعجا بداخلك طوال الفيلم: إذا كان العالم الآخر بديعًا وملونًا ومبهجًا إلي هذه الدرجة بالنسبة للفتيات القتيلات فلماذا نعتبر قتلهن أمرًا سيئًا أصلاً؟ ولماذا يأخذنا المخرج إلي مطاردة القاتل الندل ومحاولة انزال العقاب به؟ هذا سؤال خطير لأنه ينتهي بك إلي أحد أمرين: إما الاكتفاء بالجانب الخيالي حيث احتفال الأرواح بالتحرر، أو الاكتفاء بالجانب الواقعي حيث عالم الجرائم والقتل التقليدي الذي شاهدناه في عشرات الأفلام. ليست هذه فقط مشكلة العظام الجميلة وإنما هناك ملاحظات أخري علي شريط الصوت نسمع صوت الفتاة «سوزي سالمون» وهي تقول إنها قتلت عام 1973، ونتعرف معها علي عائلتها الصغيرة: الأب «جاك»، والأم «ابيحيل» والأخت الأصغر «ليندزي» والأخ الطفل «باكلي»، وستظهر أيضا الجدة التي تلعب دورها الممثلة الكبيرة «سوزان ساراندون»، وستكتشف في النهاية أنه يمكن حذف دورها بأكمله دون أي ضرر.. حتي علاقة «سوزي» مع صديقها الطالب «راي» تبدو سطحية وبدون أي مقدمات في حين تبدو صديقتها الأخري «روث» شديدة الغموض وحتي نهاية الفيلم لم أعرف بالضبط كيف تشعر «روث» بالموتي وتحس بوجودهم! علي الجانب الآخر، تبدو شخصية القاتل «جورج هارفي» -وهو جار الأسرة- شديدة الغموض. كل ما سنعرفه عنه -رغم أنه قاتل محترف للفتيات الصغيرات- أنه كان متزوجا، وأنه يهوي صناعة نماذج خشبية للبيوت، وعليك أنت أن تستكمل ما تشاء عنه، ما سيحدث هو أنه سيستدرج «سوزي» ثم يقتلها ويضعها داخل خزينة في منزله، ومنذ اللحظة التي يطاردها ثم يمسك بها يقطع المخرج إلي الأحداث من وجهة نظر «سوزي» وقد صعدت إلي السماء، وبسبب هذا القطع أو التذاكي سيحدث نوع من اللبس لدي المتفرج إذ إن رؤية «سوزي» تدخل بنا إلي منزل «هارفي» حيث نراه متمددا داخل البانيو في حين يفترض أن الجريمة حدثت في الحفرة التي صنعها داخل الحقول! بين السماء والأرض، ستجد «سوزي» نفسها في عالم طفولي ساذج حيث الألوان الصريحة والانتقالات بين السماء الزرقاء والصحراء الصفراء والثلوج البيضاء، ومن جديد تبدو المشكلة في معرفة ما الذي تريده «سوزان»، أحيانًا تبدو كما أنها تريد الانتقام فترسل تحريضها الروحاني إلي والدها، وتظهر صورتها لشقيقها الأصغر، ولكننا نراها في مشهد آخر وكأنها نادمة علي فكرة الانتقام، وبين فترة وأخري يبدو كما لو أن هدفها استعادة حب صديقها «راي» الذي ننساه بعد أن غاب لفترة طويلة عن الأحداث، بل إنها لا تغادر عالمنا إلي الأبد إلا بعد أن تقبله في إضافة رومانسية ساذجة! المؤسف حقا أن التناقض بين العالمين انتهي إلي ما يشبه التأثير الكوميدي غير المقصود، فالمفترض أن ينتقم الأب من جاره «هارفي» ولكنه سيتورط في معركة مع صديق ابنته الأخري «ليندزي» دون أي داع، والأعجب أن «ليندزي» ستشك أيضا في «هارفي» بدون مقدمات، ورغم أنها لم تتلق نداء روحيا من «سوزي» وفي أحد أفضل مشاهد الفيلم ستحصل علي دليل إدانة «هارفي»، ولكنه سينجح في دفن الخزانة التي تحوي الجثة في مقبرة الفضلات «وهو رمز آخر ساذج»، وسيأتي الانتقام منه كوميديا تماما حيث ستسقط قطعة جليد فوق رأسه فيسقط بدوره من قمة جبل، ربما أراد الفيلم أن يجعل الحل والانتقام عند السماء اتساقا مع عالم «سوزي» الروحاني، ولكن المخرج لم يفطن إلي أن هذا الحل الخارجي جعل من كل لحظات التشويق ومحاولات البحث عن القاتل أمرًا مجانيا وبلا معني ومضحكا أيضًا. لدينا في التحليل النهائي فيلمان: في الأول جريمة ارتكبها قاتل لا نعرف عنه سوي أقل القليل ولم يكتشفه أحد حتي قتلته قطعة ثلج أوقعته من حالق، وفي الثاني روح هائمة لفتاة قُتلت علي الأرض لا تعرف بالضبط ماذا تريد من عالم المادة لأنها في عالم أكثر بهجة وجمالا.. هناك تصوير ومؤثرات بصرية ومونتير محترف وممثلة شديدة البراءة في دور «سوزي» وممثل يليق بأفلام «هيتشكوك» في دور «هارفي»، ولكن هناك فشلاً فنيا حقيقيا في الربط بين روح محلقة في الفضاء وجثة داخل خزينة تستقر أخيرًا في مقبرة النفايات!