في شهر مارس من كل عام تمر ذكري وفاة عملاق الفكر العربي محمود عباس العقاد ، وفي هذا العام تمر الذكري الخامسة والأربعون لوفاته (مارس 1965) والاستاذ العقاد قد شغل الناس حياً وميتاً بأعماله وتراثه ومعاركه وصولاته وجولاته في جميع فروع الفكر والمعرفة.. وانطبق عليه قول أبي الطيب المتنبي "أبات ملء جفوني عن شواغلها.. ويسهر القوم جراها ويختصم".. وبعد مرور هذه السنوات الطويلة علي وفاته يحق لنا أن نسأل "ماذا تبقي من العقاد؟" لا علي سبيل الاستنكار ولكن علي سبيل الاستفهام الحقيقي. إذا كان للأستاذ العقاد إسهام أعظم في الفكر العربي فهو اسهامه في إعلاء مكانة العقل والتفكير العلمي، فبالعقل، وعن طريق العقل وحده، تستقيم نهضة الأمم، ويكتمل بناؤها.. والعقل هو سر سعادة الإنسانية وسر شقائها في آن واحد.. كان الأستاذ العقاد يري أنه يمكن للعالم الإسلامي أن يرتقي وأن يصبح في مصاف الدول الكبري إذا ما اعتمد علي التفكير العلمي.. ولذلك كان كتابه الرائد "التفكير فريضة إسلامية" (1962) مشيراً إلي أن التفكير ليس من كمالات الشعوب ولكنه من أساسياتها، وأن التفكير العلمي ليس سنة أو أمراً مستحباً، بلغة أهل الدين، ولكنه فريضة مؤكدة أو "فرض عين" علي كل مسلم ومسلمة.. كان الأستاذ العقاد مدافعاً عن فضيلة التفكير، في مقابل جيوش الظلام، وفي مقابل حملات الارتداد إلي الماضي، وإلي الخزعبلات والأساطير.. كان العقاد يعمل تفكيره في كل شيء ويفكر في كل شيء، حتي في التفكير نفسه.. في الدين، الذي أخضعه كثير من المشتغلين به للروح وللنقل، أخضعه العقاد للفكر وللعقل، وكانت اسهاماته التي لا يضاهيها شيء في عبقرياته الفريدة "عبقرية محمد وعبقرية ابي بكر، وعبقرية عمر، وعبقرية علي" وغيرها.. وكان كتابه "الله" (1947) قمة في التفكير المجرد الذي حاول أن يبلغ آفاقاً واسعة في مجال الفكر الديني. ولعله الكاتب الوحيد الذي كتب كتاباً كاملاً عن ألد خصوم الإنسانية وهو "إبليس" 1955 ) كان الأستاذ العقاد عالمياً في وقت كان معظم مفكري عصره "محليين"، وكان محترفاً في التفكير والكتابة في وقت كان معظم العاملين في هذه المجالات هواة أو يعملون لنصف الوقت وكان سابحاً ضد التيار في وقت كان كل كتُاب جيله ومن بعده يمالئون السائد، ويسايرون الموضة.. كان الأستاذ العقاد، رحمه الله، نسيجاً وحده في كل شيء. ماذا بقي من العقاد؟ الإجابة عندي لا شيء. فالتفكير أصبح عزيزاً وكمالياً، والاحتراف أصبح هواية أو صار مرادفاً للاغتراف، والعالمية أصبحت محلية ضيقة، والسباحة ضد تيار التخلف أصبح مسابقة منظمة للارتماء في حضن المألوف والتأكيد علي التقليدي.. حتي بيت العقاد العامر الزاخر لم يتبق منه شيء يمكن وضعه في متحفه الذي نفكر فيه منذ نصف قرن.. رحم الله العقاد حياً وميتاً...