يتفق الكتاب الغربيون والشرقيون أن العصر الأول للإسلام في مصر اتخذ التسامح والحكمة نهجا ولم يشهد ما نشهده الآن من توتر طائفي.. لقد اعترف مؤرخو الغرب من أمثال الفريد بتلر وهنري برستيد أن المسلمين الأوائل لم يمارسوا التعصب الديني عندما دخلوا مصر في عام 640م.. ويتسق هذا الرأي مع مخطوطات المؤرخ القبطي يوحنا النقيوسي والتي قام بترجمتها الدكتور عمر صابر في كتابه تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي حيث توضح هذه المخطوطات أن ذلك العصر كان نموذجا للتسامح بين المسلمين والمسيحيين.. وبالرغم من أن المسلمين والمسيحيين في المحروسة ظلوا يعيشون في وئام وسلام عبر العصور ولم يحدث ما يعكر صفو العلاقة بينهما غير أن السنوات الماضية شهدت بعض الأحداث التي أدت إلي التوتر الطائفي.. الغريب أن السبب الذي يشعل الفتيل قد تكرر في كل الأحداث الطائفية وهو عبارة عن شائعة يتلاعب مروجوها بالمشاعر الدينية لدي البسطاء. لعل المسلمين الأوائل الذين دخلوا مصر في القرن السابع الميلادي كانوا أكثر منا تدينا وتقوي ومعرفة بالله وبتعاليم الإسلام.. ولو كان الإسلام قد حرضهم علي العنف والقتل لما عاد سبعون ألف قبطي من الفارين من ظلم الحكام الرومان ولو كان الإسلام قد حرضهم علي الكراهية لدمروا كل الأديرة والكنائس في مصر تماما كما فعل الرومان الأرثوذكس الذين ألحقوا الدمار بالعديد من مراكز العبادة.. لقد عمل عمرو بن العاص علي ترميم وإعادة بناء تلك الأديرة والكنائس التي تعرضت للتدمير.. وفي المقابل -كما تقول المراجع التاريخية- فإن أقباط مصر ساهموا في بناء أول مسجد في مصر في مدينة الفسطاط. لا نبالغ إذا قلنا إن مصر لم تشهد أحداثا وصراعات طائفية إلا في العصر الذي نعيشه وخاصة مع بدء حقبة السبعينيات من القرن المنصرم. المثير للدهشة أن سيناريو الأحداث الطائفية يكاد يتكرر في كل المواقع سواء في قري الدلتا أو الصعيد الجواني إذ تبدأ الفتنة حين تتناقل الألسنة شائعة مفادها أن مسلمة تعرضت للاغتصاب أو أن منزلا في طريقه ليصبح كنيسة وقد يضيف محترفو الشائعات بعض المثيرات كأن يقال مثلا إن هذه الكنيسة سوف تهدد الوجود الإسلامي في القرية أو المدينة.. وقد تنتشر الشائعة كالنار في الهشيم بعد أن تجد مكانا لها في ثنايا خطبة الجمعة.. عندئذ تتأجج المشاعر وتغلي الدماء في العروق لتخرج الأمور عن نطاق السيطرة حيث ينطلق بعض الشبان الثائرين إلي منازل الأقباط فيحرقونها وإلي محلاتهم فيدمرونها وقد تصل الأمور إلي سقوط قتلي وجرحي كما حدث في ديروط وفرشوط في 2009 وفي نجع حمادي بمحافظة قنا في مقتبل عام 2010 وفي مطروح في مارس 2010 .وتجدر الإشارة إلي أن أخبار هذه الأحداث تتناقلها وسائل الإعلام من دون التثبت من تفاصيلها مما يساهم في إشعال التوتر في مناطق أخري. لعله من الخطأ أن نعزي كل الاشتباكات التي تحدث إلي أسباب دينية. فالصراع القبلي والثأر ينتشران منذ فترة سواء في الصعيد أو الدلتا. كما أن أبسط الخلافات الفردية قد تتحول بقدرة قادر إلي صراعات قبلية أو طائفية. من المؤكد أن التوتر الطائفي المقرون بانفلات الأعصاب يستحق اهتمام الدولة لأنه ببساطة يمس أمن وكيان الوطن ولا يمكن أن نترك الأمور علي هذا الحال.. إن الأمر يتطلب تضافر جهود كل أجهزة الدولة لاحتواء هذه الظاهرة التي قد تأتي علي الأخضر واليابس. بداية يجب أن نؤكد علي ثقافة التسامح ونسيان الإساءة. وهنا تجدر الإشارة إلي تجربة لانا اوبرادوفيتش، الفتاة البوسنية المسلمة التي فقدت العديد من أقاربها خلال الصراع الديني بين مسلمي البوسنة وطائفة الأرثوذكس التي ارتكبت مذابح في حق المسلمين في التسعينيات.. ماذا تقول هذه الفتاة؟ لم تقل إنها ترغب في الانتقام والقتل ولم تقل إنها تكن مشاعر الكراهية تجاه قاتلي أقاربها بل قالت: لقد غيرت الحرب كل شيء في حياتي وكنت وآلاف المواطنين قد تعرضنا للتشرد خلال التطهير العرقي في مدينتي. ولكن كل ذلك لم يؤثر في شخصيتي إذ إنني لم أتعلم كراهية جيراني. وإلي جانب سيادة ثقافة التسامح فإن الأمر يتطلب سيادة القانون أيضا بحيث إذا ارتكب مواطن -بصرف النظر عن ديانته- أي مخالفة أو جريمة فإن القانون يجب أن يتصدي له. لعلنا في حاجة إلي وفود طلابية من الجامعات أو حملات إعلامية لإقناع الناس بأن اللجوء إلي القانون هو خير وسيلة للتعامل مع مخالفات البناء وللحصول علي الحقوق. أما حقوق الدولة وأملاكها فإن أجهزتها قادرة علي الدفاع عنها ولا شأن للمواطنين في ذلك. وخلاصة القول فإن الاحتكام للقانون هو الذي ينقذ الأوطان من ويلات الفتنة وشرور الاضطرابات الطائفية ونيران الحروب الأهلية.