محاولات.. محاولات تبدأ براقة وتبدو جادة وسرعان ما يخفت بريقها وتتحطم جديتها، كما الشهب والنيازك تبرق وتضيء السماوات وسرعان ما تتفتت وتتهاوي في صورة ذرات بلا قيمة. وفي أمريكا صدر كتاب "أمة في خطر" حيث الخوف والفزع من إنهيار نظام التعليم وتراجع مستوي الخريج الأمريكي بما لا يحقق طموحات الأمة الأمريكية. ونحن في مصر لا يعيبنا أن نصرح من الأعماق ونقول "نحن أيضاً أمة" في خطر كمصير محتوم مضت كل المحاولات الإصلاحية للتعليم المصري، ختلفت وتعددت الآراء وعلت الأصوات وذهب الناس مذاهب شتي في كيفية تعليم أبنائهم، نظريات محدبة وأخري مقعرة بينهما عشرات النظريات تحاول كل واحدة أن تثبت خطأ الأخري. لقد مررنا بتجارب ومحاولات أظنها جميعاً باءت بالفشل وكان هذا الفشل مزركشاً بجميع ألوان الطيف لذا لا نستطيع أن نحدد له لوناً بعينه لكنه في الغالب يميل إلي السواد تارة وإلي الزرقة تارة أخري. المنتج النهائي لصناعة التعليم دون المستوي قولاً واحداً، الجميع دون استثناء غير راض عن مستوي جودة التعليم! والحكاية لا تحتاج إلي رأي ورأي معارض، الحكاية واضحة وضوح الشمس، فمستوي أبنائنا خريجي منظومة التعليم لا يسر سوي الأعداء، وهذا الإنتاج الضعيف يمثل مدخلاً جديداً لعمليات تنموية أخري ومنها التعليم ذاته. فالطبيب والمهندس والمحاسب والمبرمج والمحامي والصحفي والمعلم تخرجوا في الجامعة ومستواهم دون المستوي، والتحق هؤلاء بمؤسسات تشغيلية وإنتاجية جديدة، فماذا ننتظر منهم إلا ما نراه الآن، فالمقدمات الضعيفة حتماً ستؤدي إلي نتائج ضعيفة، وندور في دائرة مفرغة وخبيثة فضعف مستوي التعليم يخرج معلماً ضعيفاً والمعلم الضعيف سيخرج أجيالاً أضعف منه وهكذا تسير الأمور ونحن نلعن حظنا ونلعن حكوماتنا ولكن أبداً لا نلعن أنفسنا، ولا نراجع أنفسنا!! لقد ضيعنا وقتاً طويلاً - ومازلنا - في توصيف مشاكل التعليم وضيعنا وقتاً أطول في وصف جرعات العلاج ووصفات الدواء، ضيعنا وقتاً طويلاً في الوقوف طوابير أمام كل وزير جديد لنسمع نظريات ونظريات، فهناك نظرية التوسع في التعليم الفني ونظرية التوسع في التعليم الجامعي ونظريتا "ربط" ثم "فك" التعليم بسوق العمل ، ثم جاءت فكرة إلغاء السنة السادسة من مرحلة التعليم الابتدائي لتحقيق نقلة نوعية هائلة في جودة ومستوي التعليم لكن فجأة ودون مقدمات تم إلغاء الإلغاء ذاته وعودة السنة السادسة من جديد لتحقيق نفس النقلة النوعية الهائلة في جودة ومستوي التعليم! والآن جاء وزير تعليم يبدو أنه من طراز مختلف إلي حد كبير، أحمد زكي بدر وزير قوي لديه رؤية إصلاحية شاملة، يعلم علي وجه التحديد أين تكمن مواطن الداء، يعلم كذلك ما هو الدواء.. لذلك يبدو أن هذا الرجل سيفعلها هذه المرة. وكما يقولون (الجواب بيبان من عنوانه)، فقد أبدي الوزير غضبه وضيقه الشديد حينما علم أن العلم المصري ما عاد يجد من يحييه في محراب العلم، أصدر الرجل قرارات واضحة إلي جميع المدارس علي أرض مصر بحتمية القيام بتحية علم مصر وفوراً، أصدر الرجل قرارات عديدة بتحويل العديد من القيادات للنيابة بتهم مختلفة، أصدر الرجل قرارات بسرعة فض وإنهاء سياسة التكويش والتهبيش التي كانت منتشرة في الوزارة، أصدر الرجل قرارات بعودة الروح إلي المدارس عن طريق متابعة الحضور بكل دقة. أعلن الرجل أن العلاقة بين المعلم والطالب أو التلميذ لابد أن تعود كما كانت، حيث الاحترام الحقيقي وسط جور تربوي يغلب عليه الطابع الأبوي. طلب الوزير من المعلمين أن يعاملوا التلاميذ بأبوة وفي نفس الوقت طالب أولياء الأمور بتحمل مسئولياتهم تجاه أبنائهم التلاميذ، والتعامل مع المعلم علي أنه الأب الثاني للتلميذ، الوزير أعلن أن نظام الامتحانات الحالي فاشل ولا ينتج إلا حفظة، إنه نظام يعمق الفشل. الوزير أعلن أن عصر 100٪ في الثانوية العامة قد انتهي بلا رجعة، الوزير بدأ يتحرك في اتجاه المناهج وما تحويه من مفارقات، بعد أن قضي الوزير أحمد زكي بدر شهوراً قليلة بين جنبات الوزارة، بدا عليه الشيب وظهر أكبر من عمره الحقيقي بسنوات. الوزير دخل حقل ألغام ومطلوب منه تطهيره وتجهيزه وزراعته علي غرار النظم العالمية الحديثة، لكن هل ينجح الوزير بمفرده؟ لابد أن يشارك الجميع مشاركة إيجابية كي ننتشل التعليم من عثراته العديدة. بقي في نهاية هذا المقال أن أطالب الوزير أحمد زكي بدر بضرورة الاهتمام باللغة العربية والتاريخ والرياضيات والعلوم، فاللغة عنوان الهوية والتاريخ كائن حي يعيد نفسه، والرياضيات قنطرة نعبر بها إلي المستقبل، وفي أذن الوزير أهمس "إن المدارس الأجنبية في مصر تدرس لأبناء مصر تاريخاً غير تاريخ مصر، فالمدرسة الإنجليزية تدرس تاريخ انجلترا والمدرسة الألمانية تدرس تاريخ ألمانيا، أما اللغة العربية فهي لغة اختيارية! أعلم أن سيادتكم ستتخذ قرارات فورية فيما يخص المدارس الأجنبية".