لست صاحب هذا التعبير المدهش والمؤلم في آن. صاحبه نائب شوري بارز ورجل صناعة معروف. ويبدو أن محمد فريد خميس لم يبد وصفًا دقيقًا يجسد به الحال التي صارت عليها شركات الدولة التي تمت خصخصتها سوي هذه الجملة اللماحة "لعن الله الخصخصة"! لم تكن تلك الجملة موجودة بالطبع في سطور تقرير لجنة الصناعة حول الأزمة المالية العالمية والصناعات المصرية.. ولكن عندما عرج التقرير إلي ما جري لصناعة الغزل والنسيج في الأعوام الأخيرة وصل فريد خميس إلي أدق وصف للسبب الحقيقي وراء انهيار تلك الصناعة العتيقة.. أقصد ما قاله تحت قبة مجلس الحكماء لعن الله الخصخصة. ربما شعر البعض في الحكومة بالغضب ولكن من يتصفح ما جاء في هذا التقرير الخطير (الذي يوجع القلب) سيعرف فورًا معني ألا يجد رجل الصناعة أمامه سوي هذا التعبير الذي عبر به عن حزنه العميق وألمه الموجع علي ما أصبحت عليه الآن الشركات التي جرت خصخصتها.. وكيف تشرد عمالها.. ولماذا الآن يعتصمون ويضربون ويتظاهرون. أتجاوز هذا التعبير إلي التقرير نفسه الذي يتهم الحكومة - ليست حكومة نظيف وحدها - بأنها أضاعت حقوق عمال هذه المصانع المخصخصة بل حقوق الوطن كله. لم يكتف تقرير لجنة الصناعة بتوجيه الاتهام لوزراء الحكومة المعنيين، فما عاد يفيد أن تهتم فقط، بل نصحت سطور التقرير هؤلاء الوزراء بالاستجابة وتنفيذ توصيات مجلس الحكماء ولجنته الأكثر نشاطًا حتي تستطيع الحكومة أن تنهض بالصناعات المصرية وتقيلها من عثراتها.. إن كانت تريد! علي وجه الخصوص. وحسنًا فعل صفوت الشريف رئيس مجلس الشوري عندما خصص جلسة الثلاثاء قبل الماضي لمناقشة هذا التقرير المهم.. فبحسه السياسي وذكائه المعروف أدرك أنه "بعد العيد ما يتفتلش الكحك" كما يقول أولاد البلد.. وضع صفوت الشريف - مع حفظ الألقاب - علي جدول أعمال المجلس أن تتم مناقشة هذا التقرير بينما خارج أسوار المجلس كان هناك اعتصام لعمال شركة "أمينستو". وقبلها كانت هناك اعتصامات أخري لعمال شركات صناعية كانت كبري قبل خصخصتها مثل شركة طنطا للكتان! في تلك الجلسة المهمة التي غاب عنها وزراء المالية والاستثمار والزراعة قال النواب إن غياب الوزراء معناه استمرار مشاكل هذه الصناعة العتيقة وعدم توقف مسلسل الاعتصامات.. وقال نواب آخرون وأتذكر منهم النائبة النشطة د. يمن الحماقي: نحن نكرر هذه المطالبات للحكومات منذ 20 عامًا.. ولكن يبدو أننا متخصصون في إهدار صناعة الغزل والنسيج المصرية!.. وعلق د. محمد حسن الحفناوي ساخرًا: لا أدري هل الحكومة سوف تستفيد من هذا التقرير أم لا!؟ هناك خطأ ما.. في البلد اتجاهات لا نعرف كنواب كيف نصل إليها.. لماذا يقف العامل المصري معتصمًا أمام مجلس الشوري؟.. هناك خطأ.. وعلي الحكومة أن تعالج هذا الخطأ بسرعة وحتي لا يأتي يوم نقول فيه ليتنا.. وليتنا! لا أتصور أن الحكومة لم يصل إلي إدراكها ومركز معلوماتها أنه في مدينة صناعية واحدة هي العاشر قلعة الصناعة في مصر كان هناك 110 مصانع غزل ونسيج وملابس جاهزة، كلها كانت تعمل وتنتج "والأشية معدن" ولكن ظلال الأزمة المالية العالمية فضلاً عن بعض سياسات الحكومة غير السليمة أو بالأحري المضطربة أدت إلي اضطرار أصحاب "نصف" هذه المصانع إلي إغلاقها "بالضبة والمفتاح"! أوجاع نواب الشوري داخل مجلسهم لم تكن أقل من أوجاع العمال المعتصمين علي أسوار مجلس الحكماء.. وهذا ما جعلني أشعر في هذه الجلسة بأن مجلس الشوري لم يعد نوابه نواب درجة ثانية كما يحلو لبعض المعلقين ونواب المجلس الآخر أن يقولوا.. رأيت نوابًا عظام علي مستوي المسئولية.. سمعت آراء جريئة تحاول الإصلاح لا الهدم.. تنصح الحكومة بصوت حكيم.. العلاج بدون استعلاء.. أو استجداء! ليس معقولاً أن تظل العراقيل والتعقيدات والروتين موجودة في قطاع الصناعة الذي أكد الرئيس مبارك في زيارته لبني سويف أن هذا القطاع هو القطاع الأكثر قدرة علي إتاحة فرص عمل لشبابنا ومحاصرة البطالة. ليس معقولاً أن يشعر رجال الصناعة المصريون بأن قرارات الوزراء وتعقيداتهم لا تضع منتجاتهم علي قدم المساواة مع المنافسين في السوق العالمي. وبداهة، لا أتصور أن توافق الحكومة علي تسليم القطن المصري لشركات الغزل المصرية بسعر يزيد علي السعر العالمي بحوالي 12٪!.. ولا أتصور أن تستمر عملية إهداء الهدايا لكل مصانع دول العالم حتي تنافسنا في صناعاتنا الوطنية.. ولا أتصور أنه في الوقت الذي تطارد فيه الحكومة الباعة الجائلين يدق الباعة الصينيون أبواب بيوتنا بمنتجاتهم الصينية! ولا أتصور أن تسكت الحكومة ويتغافل وزراؤها المعنيون عن البضائع المهربة التي أصبحت تباع عيني عينك في منطقة محددة بواسطة عصابات منظمة تستبيح مصانعنا الوطنية وكل هدفها هو اكتناز الملايين وحساباتهم في البنوك. ليس لدي أي شك في أن وراء ما يحدث في مصانع الغزل والنسيج عمليات تخريب متعمدة.. ولكن أيضًا ليس لدي أي شك في أن أصحاب الشأن داخل كواليس الحكومة يعرفون جيدًا أكثر من أي شخص آخر أسماء المتآمرين لقتل صناعة الغزل والنسيج المصرية.. إنهم يعرفون جيدًا.. طبعًا لأنهم الحكومة التي قال عنها عادل إمام "إنت عارفة طبعا كل حاجة.. مش أنت الحكومة"! لم يكن فريد خميس هو الوحيد في مصر الذي قال "لعن الله الخصخصة".. ولكن عندما يقولها رجل صناعة وقيادي بارز بالحزب الوطني.. تكتسب تلك العبارة الذكية ألف معني.. وألف مغزي! لقد نال صفوت الشريف تقدير وإعجاب نواب مجلس الحكماء ومن تابعوا تلك الجلسة المهمة عندما علق بلباقة وكياسة: "فريد خميس قدم عرضًا مختصرًا حول التقرير بأقل مما جاء في سطور هذا التقرير الخطير الذي يتضمن ركائز أساسية أري أنها أوسع وأعمق مما يريده رجال الصناعة في البلاد"! كان خميس صادقًا وشجاعًا حين صاح لعن الله الخصخصة.. وكان صفوت الشريف ذكيا وحاسما حين أشاد بهذا التقرير الخطير!