في عيد ميلاد شاعر الشعب محمود بيرم التونسي، المصري الخالص الذي استقبل أول نور للحياة تحت سماء الإسكندرية في الرابع من مارس سنة 1893، يبدو الانتباه ضروريا إلي الفوضي العارمة التي تشهدها الساحة الفنية، بعد أن تكاتفت كل العوامل الكفيلة بإفساد وتشويه الذوق العام: أصوات نشاز، ألحان ماسخة مكررة، كلمات يبحث كاتبوها عن كل ما هو مبتذل فج ركيك مسيء. كان بيرم شاعرا عملاقا بكل ما تعنيه الكلمة، وقصائده بمثابة الشهادة الفنية الراقية عن مصر في النصف الأول من القرن العشرين، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، أما عن سنوات المنفي في باريس فقد اصطحب مصر في قلبه، وعاش هناك يكتب عن هنا، ويبرهن علي حقيقة أن المواقف لا تتجزأ، والانتماء الوطني المخلص قادر علي عبور وتجاوز الحدود. عشرات من الروائع الغنائية أبدعها بيرم، وقدمت ثومة من كلماته علامات لا تنسي، تبعث النشوة والسعادة بعد أكثر من نصف قرن علي ميلادها، لا يملك من يستمع إلي أهل الهوي والأولة في الغرام وأنا في انتظارك وهو صحيح الهوي غلاب وشمس الأصيل والقلب يعشق كل جميل، إلا أن ينظر بكل ازدراء واحتقار لمن يغنون الآن ويكتبون ويلحنون!. لم يكن بيرم شاعرا عبقريا فحسب، فهو أيضا من البارعين في جلد الأدعياء والتشهير بهم، ومن يقرأ قصيدته الفريدة عن أهل المغني، لابد أن يتأملها طويلا كأنه يطالع رأيه في المشهد الغنائي المعاصر: يا أهل المغني دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله داحنا شبعنا كلام ماله معني.. يا ليل وياعين ويا آه القلوب موجوعة من الكلمات التافهة والألحان المسلوقة والأصوات المنفرة، وعندما يتحول الفن إلي مهنة من لا مهنة له، يبدو منطقيا أن يسود الرديء، ويتراجع الجميل، وتتعكر الأرواح، ذلك أن الفن الجميل المنعش قد تحول إلي أداة عذاب يجلدنا بها مرضي نفسيون مشوهون!.