مع كل اكتشاف أو اختراع جديد تتغير أساليب البشر في التعبير عن أنفسهم وعن احتياجاتهم، كما تتغير وسائلهم في الحصول علي هذه الاحتياجات. ولقد لعبت تكنولوجيا الاتصال الحديثة بما فيها الإنترنت، الدور الرئيسي في ذلك المشهد الذي انشغل به المصريون جميعا هذه الأيام وهو عودة الدكتور البرادعي من اوروبا بعد خروجه إلي المعاش من منصبه الرفيع في الأممالمتحدة ورغبته في أن يتفرغ لمشاركة الشعب المصري في النضال من أجل حياة أفضل يري ونري معه أن المصريين يستحقونها. قبل عودته لمصر سافرت إلي فيينا بعض المحطات الفضائية في مصر وأجرت معه عدة لقاءات شرح فيها للمصريين لا نقول خطته بل حلمه الذي يريد تحقيقه في مصر وهو تغيير مواد في الدستور تتيح له أن يترشح مستقلا لرئاسة الدولة. أي أنه طلب من سلطات الحزب الحاكم ومن مجلس الشعب في مصر أن يقوموا بتغيير الدستور كشرط لدخوله انتخابات الرئاسة. ولقد استقبله عند عودته في مطار القاهرة عدد كبير من البشر قدرتهم أجهزة الإعلام المصرية بالمئات بينما قدرتهم المعارضة بالآلاف، ثلاثة آلاف علي الأقل. وكان معهم بالطبع عدد من السياسيين والمثقفين المعارضين، غير أن ما يهمنا في الأمر هو هذا العدد الكبير من الشبان الذين جاءوا بدافع من الأمل، لدعم هذا الرجل الحائز علي نوبل والذي كان يحتل منصبًا رفيعًا في الأممالمتحدة. وحتي الآن لم نقرأ أو نسمع أن الدكتور البرادعي تقدم بطلب مكتوب إلي رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الشعب يطلب فيه تعديل الدستور. والحكومات بالطبع تعمل ليس وفقا لما تقرأه في الصحف أو تسمعه وتشاهده في الفضائيات وإن كان ذلك يحدث أحيانا في أمور ليست بهذه الحيوية الحكومة في حاجة إلي أوراق. غير أنه بغير أوراق وبغير برامج ولقاءات من السهل جدا أن نعرف أنه من المستحيل، أن يوافق الحزب الوطني بكل مستوياته علي هذا الطلب. ولذلك وبعد عدة اجتماعات مع أطراف عديدة ظهرت الجمعية الوطنية للتغيير. الواقع أن الشيء الوحيد الذي كان متاحا للدكتور البرادعي بمجرد نزوله من الطائرة هو أن يعلن إنشاء حزبه الجديد. وهنا يأتي السؤال: وهل ستوافق له لجنة الأحزاب علي هذا الحزب؟ وهل ستوافق له علي تعديل الدستور؟ لقد كان بوسع الدكتور البرادعي أن يبدا بإحداث التغيير، وأن يواجه الحزب الحاكم بحزب جديد ينضم إليه الشبان علي طول الوادي وعرضه، لو أنه استسلم لإحساسه التاريخي وفهم أبعاد الفرصة التي أتيحت له، لوجد أنه لا توجد فرصة أخري لتحقيق حلمه في التغيير. كان علي الأقل سيدفع الحزب الوطني بقوة للعمل ويدفع في عروقه دماء العمل السياسي الحارة. ونتيجة لذلك كنا سنتخلص من هذا العدد المهول من الأحزاب التي لا تفعل شيئا ولا يعرف عنها المصريون شيئا، غير أنه لم يفعل. عندما تكون لديك استراتيجية صحيحة وتحاول الوصول إليها بتكتيك خاطئ فلا بد أن تصل إلي عكس الهدف كلاوتزفتز (سبق للدار القومية أن نشرت هذا الكتاب منذ أكثر من أربعين عاما، هل نطمع في أن تعيد نشره) أنا أعتقد أنه لم يفكر في إنشاء الحزب لأنه هو نفسه لم يتوقع أن تكون له هذه المكانة في قلوب الناس. هناك لحظة لكل فعل في السياسة، يستحيل تأجيلها، بعدها يفقد الفعل قوته وبريقه. لم نسمع من قبل في طول التاريخ وعرضه عن شخص طلب من الآخرين تغييرا لصالحه، عليه هو نفسه أن يبدأ بصنع هذا التغيير وليواجه ما يواجه من متاعب وعقبات، واللي ينزل البحر يبقي قد الموج. لقد جاء البرادعي بشكل جديد ومحتوي قديم يحمل عناصر التفكير السياسي التقليدي الذي نعانيه وخاصة عندما تكلم عن الأحزاب السياسية المسيحية في الغرب وكأنه يرغب في تأييد أو تحييد جماعة الإخوان المصرية، هو لم يفطن إلي أنه وبذلك العدد من الشبان الذين استقبلوه يمثل واقعا أقوي بكثير من جماعة الإخوان هذه الأيام بعد أن أصبحوا تاريخا. هذه الأحزاب المسيحية في الغرب استوعبت مئات السنين من النضال في مواجهة الكنيسة والبابوات إلي أن تأكدت وتأكد معها الناس من حتمية إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. أما هنا يا دكتور فالتجارب مريرة في منطقتنا مع السياسيين الإسلاميين، هم يأخذون ما لقيصر وما لله، ولا يتركون للناس سوي الخراب والخوف. الدكتور البرادعي مواطن مصري شريف ونبيل وحالم وهو أيضا لاعب ممتاز في خط الدفاع ويستطيع بسهولة التقدم إلي خط الهجوم غير أن الكرة عندما تصله، يتردد للحظات ثم يشوطها خارج المرمي. هو ببساطة ليس هدافا. لقد فات الوقت للأسف الذي يعلن فيه قيام الحزب، ولو أعلنه الآن أو بعد أيام فسيفاجأ بأنه يخوض صراعا عنيفا مع هؤلاء الذين استقبلوه في المطار، أقصد هؤلاء الذين فشلوا علي مدي سنوات طويلة في عمل تنظيم حزبي عصري يتعامل بصدق وقوة مع واقع مصر والمصريين.