عندما يجلس المسئول المهم أو صاحب المركز المرموق لكتابة مذكراته أو ذكرياته يحدث شيء من ثلاثة! أما الشيء الأول فهو أن كل الأحداث والمواقف تدور حول صاحب المذكرات وأن الزعيم لم يترك موقفا مهما أو بسيطا إلا ولجأ لصاحب المذكرات طالبا الرأي والمشورة أذكر أن المرحوم "حسن التهامي" عندما كتب مذكراته والتي نشرت الزميلة "الأهرام" بعض فصولها في أواخر السبعينيات من القرن الماضي روي كيف أنه قام بربط "جمال عبدالناصر" وتقييده بالحبال في إحدي المناقشات بينهما!! "تصوروا". أما الشيء الثاني فهو أن تجيء المذكرات باردة جافة - ومجرد آراء وانطباعات لا تفيد من قريب أو بعيد وكأنها صفحات من الإعلانات المبوبة. أما الشيء الثالث فهو أن تكون المذكرات حافلة بكل ما هو إنساني ومؤثر وبسيط دون فلسفة أو تزويق وأن تري تصرفات الحاكم فيها كبشر لا نصف إله.. وأعتقد أن مذكرات سفيرنا في موسكو لمدة عشر سنوات الدكتور مراد غالب من هذا النوع بالضبط مذكرات مراد غالب وعنوانها "مع عبد الناصر والسادات: سنوات الانتصار وأيام المحن "إصدار مركز الأهرام للترجمة والنشر"، فيها السياسة والتاريخ والدراما الإنسانية والحزن والأسي والدموع والابتسامات والانتصارات وحكايات تثير الأسئلة أيضا! وعن الأيام الأخيرة في حياة عبدالناصر روي د. مراد غالب هذه الواقعة الغريبة جدا حيث يقول "أثرت هزيمة 1967 تأثيرا شديدا علي الرئيس "جمال عبدالناصر" واعتلت صحته خصوصا الآلام المبرحة التي كان يشكو منها في ساقيه، والضعف الشديد في الدورة الدموية في الأطراف والتهاب الأعصاب، وفي أواخر يونيو 1967 وصلت إلي القاهرة قادما من موسكو وتم استدعائي لمقابلة الرئيس، جلست أنتظره في الصالون الخاص بالزوار، وما أن دخل الغرفة حتي شعرت بأنني أري شخصا آخر، ليس هذا هو عبدالناصر كان منهكا واجما تظهر عليه بكل وضوح آثار الهزيمة الساحقة، ومن الطبيعي أن يكون في غاية الحزن والألم. وراح د. مراد غالب يروي ما دار بينه وبين الرئيس إلي أن قال له: يا مراد.. أنا تعبان ولا استطيع أن استمر معك في هذا اللقاء أكثر من هذا وأحب أن أراك غدا. ويقول د. مراد غالب: وللأسف فأنه كان متعبا في اليوم التالي ولم أتمكن من مقابلته!! وفي سبتمبر 1969 اصيب بأزمة قلبية وكان السيد "صائب سلام" رئيس وزراء لبنان في القاهرة ينتظر مقابلة الرئيس عبدالناصر الذي لم تكن حالته تسمح له بمقابلته فتعللت له رئاسة الجمهورية بأسباب أخري يتعذر عليها إتمام المقابلة والحقيقة أنه كان يعاني في تلك الأيام من جلطة في القلب، علاوة علي مرض السكر الخبيث الذي اشتد عليه أيضا! ومن المعروف أن هذا المرض يدمر الأنسجة وقد تفاقمت حالته ومع أنه استطاع الخروج من نوبة المرض، إلا أن الآلام ظلت تلازمه، ولم تتوقف شكواه منها، وأخذ يتردد علي الاتحاد السوفيتي للاستشفاء في "سخالطوبا بالقوقاز" وهي مشهورة بالمياه المعدنية التي تبث اشعاعا يساعد علي تحسين الدورة الدموية وتخفيف الآلام وفعلا لاحظنا أنه كان يشعر بارتياح بعد هذه الجلسات لكنه لم يكف وهو في شدة المرض عن مطالبة السوفيت بسلاح الردع، الذي كان يعتبره مهما للرد علي أية ضربة إسرائيلية في العمق! ونظرا لأنه كان مهموما بسلاح الردع وهو مريض، فقد كان السوفيت يرسلون إليه وهو يتلقي العلاج للاستشفاء الكثيرين من الخبراء الفنيين والعسكريين والمهندسين ليناقشوه في هذا الموضوع، وكان يؤكد إيمانه بأنه من الممكن أن نحارب إسرائيل ونتفوق وننتصر عليها في أية حرب شاملة. وضمن رحلة علاجه أدخله السوفيت - في آخر زيارة له عام 1970 - المصحة وأدخلوه غرفة مخصصة لرواد الفضاء بها أوكسجين تحت ضغط عال، وأجروا كشفا شاملا خصوصا علي القلب، ثم جاءني البروفسور "شازوف" وهو الطبيب الخاص بالكرملين ووزير الصحة فيما بعد - وأسر لي بصفتي زميلا طبيبا بأنه سوف يطلعني شخصيا علي حقيقة الحالة الصحية للرئيس مشترطا ألا أردد هذا الكلام لأي شخص وقال: كنا نأمل أن تتسع الدورة الدموية الفرعية في القلب لكي تعوض انسداد الشرايين، لكن للأسف لم يحدث هذا وأنا أبلغك بذلك لتعرف الحالة، ولكي تنقلها بشكل غير مباشر - دون ذكر الأسباب - للناس المحيطين بالرئيس حتي يريحوه ويعملوا علي أن يجنبوه التوتر والإثارة، وهذا شيء مهم جدا لحالته أما عمره فلا أحد يستطيع أن يقرر أي شيء بخصوصه لكن المؤكد أن ما وجدناه لديه يمثل علامة خطيرة. ويعلق د. مراد غالب قائلا: بعد أن عرفت هذه الحقيقة المؤلمة لم أستطع أن أبوح بها لأي إنسان ولا حتي للرئيس عبدالناصر وإن كنت أعتقد أنه كان يعلم بهذا، لذلك لم يكن خبر موته مفاجأة لي". ولسوء الحظ أنه عاد إلي القاهرة وحضر اجتماع المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي الذي أعلن فيه قبوله مبادرة روجرز وتعرض للكثير من حملات الهجوم البشع والرخيص في كثير من الدول العربية التي استخدمت فيها أساليب ساخرة ومهينة مما أثر كثيرا علي صحته!! وما أكثر الأسرار والالغاز التي لا تزال مجهولة لم يكشف النقاب عنها بعد!