ثمة مؤشرات تتجمع في الأفق تقول إننا علي أبواب تغيرات مجتمعية إيجابية هامة ومؤثرة، قد لا نلحظها بمجرد النظر، وقد ينكرها الغارقون في فوران اللحظة، ولأن التغيير ومن ثم الإصلاح يبدأ فكرًا فهو لا يخضع لقياسات الزمن بحسب تطلع الساعين للتغيير، إذ يجابه موروثات وتراكمات سنوات بل وعقود، شهد فيها المجتمع تراجعات وانتكاسات حفرت لها في الوجدان الجمعي مسارات وتلافيف معقدة، استنام العامة لها ورضوا بها بل وحسبوها نسق حياة بل وعند البعض - وهم كثر - ضمانة لما وراء الحياة المنظورة خاصة وهي تقدم لهم متدثرة بلباس ديني. ولعل هذا ما حدا بالنخب للدعوة إلي تجديد الخطاب الديني باعتباره الفاعل الأساسي في تشكيل الذهنية العامة، وبحسب استقراء وقائع الاحتقان الطائفي نجد أن ذاك الخطاب يقف وراء جل الأحداث الدامية التي انتقلت من طور الجماعات المتطرفة الراديكالية إلي طور العامة بعد أن استلبهم الخطاب المتطرف. علي أن هذه الدعوة في بعض جوانبها قد تسلمنا إلي نتائج معاكسة إذ تختزل مدخلات المناخ الطائفي التطرفي في الخطاب الديني وحده، وتغفل ما عداه بل وتراهن علي المؤسسات الدينية فتمنحها ما يزيد من سيطرتها في تغافل عن فرضية أساسية أن المؤسسة الدينية بطبيعتها أحادية الرؤية علي خلفية يقينية بحكم طبيعة الدين الذي هو الحق المطلق. ومن هنا لابد أن ننتبه إلي أن الأولوية لابد وأن تنصب علي الدعوة لتجديد الخطاب الثقافي، والذي يقر بالتعددية الفكرية والدينية والمذهبية وينأي بها عن مربع الصدام إلي فضاءات التكامل والتعايش والقبول المتبادل، والخطاب الثقافي يتضمن كل صنوف المعرفة الإنسانية ومنتجاتها الحضارية والمتجاوزة للتقسيمات السياسية أو العرقية باعتبارها منتجًا إنسانيا ملكا للبشرية بجملتها. وعليه تصبح الكرة في ملعب المفكرين والمبدعين، فنًا وإعلامًا وتعليمًا، والفن يأتي علي رأس القائمة لما له من تأثير مباشر عبر تعامله مع الوجدان والفكر معًا وهو يتسلل للمرء بنعومة؛ رؤية عبر الصورة واللوحة والمجسمات وإبداعات التشكيل المختلفة، وصوتًا عبر الموسيقي لحنًا وسيمفونية وأغنية، وفكرًا عبر الرواية والقصة والحكاية، وتجسيدًا عبر الدراما التليفزيونية والإذاعية والسينمائية والمسرحية، وحوارًا عبر الندوات والمحاضرات العامة، وغيرها من ألوان وصور التواصل المعرفي الذي يؤسس لثقافة الحوار وقبول الاختلاف تكريسًا للتكامل ومن ثم اندماج إنساني تنويري ينتج آثارًا تنموية علي كل الأصعدة، تسقط معها كل الأنساق التمييزية وتختفي معها كل التيارات الطائفية ودعاوي التطرف. وتأتي مسئولية المنظومة الثقافية في اختيار منهجها في تناول هذه الآليات، فالغالب اليوم مغازلة المتلقي فيزداد التخلف تخلفًا وكذا التراجع الفكري وهبوط الذوق العام واختفاء القيم المتحضرة، النظام والاحترام المتبادل والأخلاق العامة السامية، ليحل محلها الذاتية والعنف والفوضي والتي تولد وتجذر الفكر العشوائي والذي ينعكس علي الحياة اليومية ويفسر الانحدار المجتمعي الذي نلمسه ونعيشه ونعايشه ونألفه وقد نراكم عليه وكأننا نسعي لانتحار مجتمعي جماعي. البديل أن ننتبه إلي حتمية تبني توجه قيادة المجتمع عبر آليات الثقافة التي عددنا بعضها، بطرح رؤي تنويرية لا تغازل الواقع وتغيبه، بل تعيد إنتاج ما يأخذ بيده نحو التحضر وزرع قيم العمل والإنتاج وإعمال العقل واحترام الخصوصية وتحفيز الإبداع وإعادة الاعتبار للعلم ومقاومة القبح والفساد وتفعيل معاني الحب والخير والجمال، وهل هناك غير الفن بقادر علي ترجمة هذا؟! وعندي يقين بأننا نملك إمكانية التغيير الإيجابي عبر تجديد الخطاب الثقافي، رغم قتامة اللحظة، لم يتولد بضغط مقاومة الواقع المتردي الذي يعانيه كل المهمومين بالشأن العام وبمستقبل وطن وقر في القلب والضمير والوجدان، بل تأكد عندي وأنا مستغرق في حفل أتاحته دار الأوبرا المصرية قبل أيام - الخميس 11 فبراير 2010 - في المسرح الصغير (500 مقعد) كان لي بمثابة المفاجأة، لأسباب عدة؛ يقدم لما يقرب الساعتين عزفًا منفردًا علي البيانو - ريستال بيانو - لمقطوعات من الموسيقي العالمية الكلاسيكية لبيتهوفن ورافيل وباخ وشوبان، في توليفة متنوعة تنتقل برشاقة لتغطي مساحة زمنية تتراوح بين القرن السابع عشر والعشرين، وتتصدي لها شابة مصرية يانعة رقيقة كالنسمة تطرق باب السنة العشرين من عمرها، استطاعت أن تدخلنا إلي عالم الموسيقي العالمية الكلاسيكية وتستغرقنا في أجوائها رغم كل موروثنا الفني الذي بات لا يستسيغ اللحن إلا مقرونًا بالكلمات، لم يكن عزفها المتمكن هو اللفتة الوحيدة بل كان اسمها - ميريت حنا - يحمل رسالة التواصل والتصالح مع تاريخنا المصري المتجذر فينا، فميريت اسم مصري قديم يعني في لغة أجدادنا الفراعنة - المحبوبة - بينما يعني اسم عائلتها في الثقافة المسيحية - الله حنان - وبين الحب والحنان تأتي رسالة الموسيقي المجردة التي تطلق العنان للروح أن تسبح في المطلق في تجاوز للذات، امتدت المفاجأة إلي القاعة التي كانت كاملة العدد، جمعت كل ألوان الطيف المصري بثقافاته وانتماءاته، تجاورت السيدة المسيحية مع أختها المحجبة، والشاب بجوار الكهل، كان الكل مأخوذًا ومنبهرًا بهذا التوحد بين المقطوعة الموسيقية والعازفة، التي قدمت في انفعالها ووقفاتها وإنسيابية أصابعها مع أصابع البيانو البيضاء والسوداء قراءة مصرية لألحان عالمية، لتدخلنا في دائرة التفاعل الإنساني متجاوز التاريخ والزمن والجغرافيا. - وقد ترجم هذا التفاعل في موجات التصفيق التي كانت تفصل بين مقطوعة وأخري، وكانت الملاحظة اللافتة أن يتزامن هذا الحفل مع ثلاث حفلات أخري، واحدة منها لفنان البيانو العالمي رمزي يسي، والثانية للفنانة نسمة عبدالعزيز عازفة المارمبا العالمية والمبدعة، والثالثة لفرقة باليه أمريكية، وكانت القاعات كلها مكتظة بالرواد، في إشارة واضحة لشغف المصريين بالفن وإصرارهم علي مقاومة دعوات الهجرة إلي الماضوية والتخلف، ومقاومة كل أشكال القبح بالفن الراقي، وتأكد لي أن الفن والموسيقي ومن ثم الثقافة الجادة والتنويرية توحد وتجمع ما تفرقه وتشتته الطائفية والتعصب.