لفتت القاصة وطبيبة الأطفال عزة رشاد الأنظار إليها حينما أصدرت مجموعة قصصية بعنوان "أحب نورا.. أكره نورهان"، التي صدرت بعد روايتها "ذاكرة التيه" التي نشرت عام 2003، وها هي تعود مرة أخري بعد غياب استمر لمدة أربع سنوات، بمجموعة قصصية صدرت عن دار"هفن" بعنوان "نصف ضوء" تعبر فيها عن مشاكل وقضايا المرأة، لتكون بطلاتها من المتزمتات دينيا والمتمردات علي المجتمع والفقيرات الباحثات عن الحب، والوحيدات والفتيات الباحثات عن اهتمام العائلة والبلطجيات والمسجلات خطر، فلماذا المرأة بالتحديد؟، هذا هو ما تجيب عنه عزة رشاد في حوارها ل"روزاليوسف": * أربع سنوات تفصل بين مجموعتك السابقة والمجموعة الجديدة، هل يعود قلة إنتاجك إلي الخوف من الكتابة؟ أم إلي رغبتك في التأني والتجويد؟ - أربعة أعوام هي بالفعل فترة طويلة لكتابة إحدي عشرة قصة، لكن المجموعة القصصية ليست عملاً متواصلاً كالرواية ينذر الكاتب لإنجازه عاماً ونصف العام أو عامين، فالقصص مثل حبات الخرز يجمعها الكاتب علي فترة طويلة ثم يغربلها وينتقي بعضها ليصبح العقد الملضوم، وبالنسبة لي لا ألوي ذراع مخيلتي ولا قلمي، وبرأيي فالقصة الخالية من الافتعال، غالباً ما تكون مزاجية ومراوغة ومتفلتة جداً، ويبدو لي أن هذا هو سر فتنتها، أما بالنسبة للخوف من الكتابة فهو خوف صحي يعبر عن تقدير وعدم استهانة بالكتابة، بشرط ألا يتحول إلي ذعر وإحجام عنها، وأنا لم أدفع "نصف ضوء" للنشر إلا بعدما أحسست أنني تجاوزت فيها نفسي - ككاتبة - عما كنت عليه في "أحب نورا.. أكره نورهان"، كما أنني أنجزت خلال الأربع سنوات أعمالاً أخري، منها عمل درامي طويل آمل أن يري النور قريباً. * ما الذي يشير إليه اسم المجموعة " نصف ضوء" هل تقصدين به أشياء جميلة لا تكتمل؟ - حقاً الأشياء الجميلة لا تكتمل، كما أنه ما من جمال خالص، وما من حقيقة خالصة، فهناك وجوه كثيرة للمنظر إذا ما رأيناه من زوايا مختلفة، وهذا التفهم للإنسان الممزق بين طموحاته ومخاوفه هو بؤرة اهتمام قصصي، التفهم الحقيقي بعيداً عن التعاطف المجاني وبعيداً أيضاً عن التلطيخ والتشويه. * لماذا يحضر الموت بقوة داخل المجموعة، هل أنت مهمومة به علي المستوي الشخصي؟ - أنا مهمومة أساساً بالحياة، روعتها وهشاشتها بنفس الوقت، وفي قصص "نصف ضوء" ستجدين أناساً يعيشون كالأموات أو علي هامش الحياة، باهتين وسلبيين، كما ستجدين أمواتاً ما زالوا أحياء رغم مواراتهم التراب منذ سنين طويلة، لكن ما زالت ذكري حيويتهم الفياضة وشغفهم بالحياة تذكرنا بكم هي ثمينة وبكم هي هشة الحياة، وبكم تستحق النضال، بعيداً عن الكراهية والأنانية. * التمرد بالمجموعة دائما ما ينتهي بالموت، فهل ترين أن المجتمع طوق يلتف حول رقبة المرأة ولن تتخلص منه إلا بالاستسلام له أو الموت؟ - الموت لم يكن ضريبة التمرد في أي من القصص، والبنت المتمردة في قصة "الرابحة" هي التي انتصرت، رغم موتها، علي زميلتها المتشددة إذ جعلتها توقع لابنتها علي استمارة فرقة الفنون، وأنا أوافقك الرأي بأن المجتمع طوق خانق وبطلات قصصي لسن بطلات يحققن المعجزات، بل هن نساء يعانين حتي يكسرن الطوق ويتحررن. * صنفك البعض بأنك كاتبة نسوية، فهل اهتمامك بتفاصيله سببه إيمانك بأن للنساء قضايا وعالما يجب الإفصاح عنه، أم أنك تكتبين عنهن كثيرا لأنهن العالم الذي تعرفينه جيدا باعتبارك امرأة؟ - بالفعل وصفني البعض بأني كاتبة نسوية، لرفضي الأنساق الذكورية التي تقوم علي المركزية والانتخاب التفاضلي، والعنف والإقصاء والتعتيم علي بعض القضايا المهمة، فالنسوية تعيد الاعتبار لقيم العدالة والحرية والمساواة والشفافية والغفران، النسوية يعتنقها الرجال والنساء معاً. أما كون النساء هن أغلب أبطال قصصي فهذا فعلاً لأني امرأة منغمسة في مستنقع النساء المليء بالحنان والأسي وكذلك بالتمرد والشجاعة، والأدب الجيد يشف عن هموم الكاتب دون أن يتحول لبوق أو يكرر الكليشيهات المستهلكة. * تكتبين القصص بشكل قادر علي استيضاح المشاعر الداخلية الدفينة للنساء، فهل لك علاقة بعلم النفس؟ - إن أية كتابة لا تساهم بإضاءة واستشفاف اللغز الإنساني لا تستهويني، وبرأيي فكل أنواع المعارف، علوم وآداب وفنون يثري بعضها بعضا، وعلي رأسها الأدب وعلم النفس، وقد أقر علماء النفس بفضل الأدب في الكشف عن كثير من المعضلات النفسية التي ما كان يمكن اكتشافها من شكوي المرضي وحدها. * وألا تعتبرين أن مكان قصة "عقدة لسان عم ريحان" غريب بالمجموعة، لأنها تحكي عن رجل بينما تدور باقي القصص حول النساء؟ - ما جعلني شغوفة بهذه القصة هو التحدي الذي واجهني في كتابتها كقصة تعبر عن حدث كئيب لكن بأسلوب غير مأساوي، بل علي العكس يميل للمرح والسخرية، خاصة من الذات، بفضل خفة روح عم ريحان الذي يتمتع بالكثير من اللطف والتسامح ومحبة الناس والحياة، أما كونها قصة رجل أو امرأة فلم آخذه معياراً أبداً. * ألا ترين أن موضوع رغبة البعض في إنجاب الولد، الذي تركزين عليه في أكثر من مجموعة، أصبح موضوعا تقليديا؟ - بكل أسف التمييز ما زال موجوداً، ليس فقط في الأوساط الشعبية والريفية التي تنبع منها قصص "نصف ضوء" بل حتي في أوساط المتعلمين الذين يدعون غير ذلك، فعندما تطالب إحدي الجمعيات الأهلية بتقنين تعدد الزوجات أو غيره فإنها تتلقي اتهامات رهيبة تصل لحد التكفير، السلطات نفسها تخشي احتجاج رجال الدين خاصة المتشددين منهم، وتتراجع عن هامش الحرية في اللحظات الحاسمة، مع أن هناك دولاً إسلامية تجاوزت التمييز دون أن تعتبر ذلك مساساً بالدين. * لماذا تعاطفت مع شخصية "الغولة" التي تمارس البلطجة، وهل تحملين مسئولية تدني مستوي هذه الفئة الثقافي والاجتماعي إلي المجتمع أم هم أنفسهم؟ - أنا كاتبة، أقتنص حيوات أبطال قصصي بدمٍ بارد، وأرتكب الجريمة الكاملة دون عقاب، وفي مقابل هذه الامتيازات الضخمة يكون لزاماً علي تقديم عالم حقيقي من أجل الفهم وليس التعاطف المجاني، وفي قصة "عازل للصوت" هناك إجماع علي رفض الغولة، لكن هذا يتغير حينما توضع في لحظة معينة تكشف عن ضعفها وخوفها رغم ملفها الإجرامي، وخائفة ككل البشر، وهذا التفهم هو الذي يجعلني أوزع مسئولية وصول الغولة إلي هذا الحد من التغول علي المجتمع كله. * أي الطرق تفضلين للتعبير عن آرائك السياسة في أعمالك الأدبية؟ - لدي تصورات سياسية أحرص علي تطويرها عبر القراءة والنقاشات كي لا تتحجر، لكني اخترت أن أكون أديبة، والعمل الأدبي برأيي قد يكون مثل همسة "مرهفة في إلحاحها"، وقد يندفع مثل قالب طوب "يرميه شريرٌ فوق رأسك"، وأحب الكتابة إلي نفسي هي ما تبدو همساً رقيقاً لكنها تترك بأدمغتنا الأثر الدامي لقالب الطوب وتُُبقي شبح الشرير يطاردنا ويقلق مضاجعنا، تماما مثل قطرة السم في كوب العسل، وهذا يعكس طبيعة الفن وقدرته الاستثنائية علي اقتناص الجمال حتي من أشد العوالم قبحاً.