تخضع حياتي اليومية لتكرارات عقلية وجسدية، تدور التكرارات في حيز مكاني ضيق، وهي تحدث دائماً بصيغة الجمع، أي أنني لا أذكر للتكرار مرةً أولي أو ثانية، ولا أذكر أيضاً كيف تراكم فوق الكتفين، يبدو أن التكرار في مرته الأولي أو الثانية أو حتي الثالثة، كان اختلافاً، كان يلمع ببريق البداية، ويحدث تحت مبدأ الندرة. يفلتُ الاختلاف من مُشاهَدتي، من مُعَاينتي، من مُراقَبتي، وكأنني لم أختبره يوماً، كيف أصبح تكراراً؟ يقول فرويد: تذكَّرْ وأَنشئِ الذكري كي لا تُكرِّر، ويقول دولوز مؤكداً: نُكرِّر ماضينا كلما قلصنا من إعادة تذكره، وأقول: لا تشتعل الذكري إلا بغابة التكرار، ومع هذا نُكرِّر. إن زمن التكرار حاضر أبداً، وزمن الاختلاف ماض أبداً. تحضرني دائماً كثرة من مُحاوَلاتٍ، حدثتْ في الماضي، وتحدث الآن. تُهاجمني بغيمة ضبابية، لا أعرف عددها، ولا أذكر منها سوي مرارة الخيبة. نجدة من عند هيوم: لا يغير التكرار أي أمر في الموضوع الذي يتكرَّر، إلا أنه يغير شيئاً في الروح التي تتأمله. تأكيد النجدة من دولوز: المُفارقة أنه لا يمكننا الحديث عن التكرار إلا بواسطة الاختلاف أو التغيير الذي يحدثه في الروح التي تتأمل، أي بواسطة اختلاف تنتزعه الروح من التكرار. من المؤكد أن الفشل علي سبيل المثال في المُحاوَلَة الخامسة ليس هو الفشل نفسه في المُحاوَلَة التاسعة، ومن المؤكد أيضاً أن وجه مَنْ قام بالمُحاوَلَة سيزداد قتامةً مع ارتفاع عدد المُحاوَلات، ولن يتوقَّع بسذاجة أن نجاح المُحاوَلَة هو ما تنتزعه الروح من غيمة التكرارات. لا يرَد التكرار إلي الكلمة الواقفة علي طرف اللسان، العادة، فهو أبعد ما يكون عن العادات. تتم العادة بخنوع ما، باتفاق مُهان، وزمنها هو المستقبل، أمّا التكرار فهو يتم تحت مظلة اليأس، وصدفة اللقاء. يقول كافكا في يومياته عن نومه المُعذَّب: وكأنني نائم بجوار نفسي. التكرار أيضاً يحتاج إلي نفس أخري، تُشاهِد وتُعاين وتُراقِب. مَنْ كان في زمن الستينيات من القرن الماضي بعد مُشاهَدته لفيلم 2001 أوديسا الفضاء لستانلي كوبريك يتخيل أن أفكار الفيلم ستبقي إلي الآن دون تجاوُز، أي أن العلم لم يتجاوز غموض العمود الحجري أو المغناطيسي في بداية الفيلم وفي منتصفه، وهو العمود الذي وقف أمامه الإنسان البدائي مشدوهاً لا يملك سوي رغبة اللمس، وهي نفس الرغبة البدائية التي واجهتْ البعثة الفضائية بعد آلاف السنين أمام العمود المُشع نفسه. 2001 كان زمناً مستقبلياً أثناء تصوير أوديسا الفضاء. بآلية السفينة السابحة في الفضاء، يصاحبها فالس الدانوب الأزرق ليوهان شتراوس، موسيقي الكواكب، جيورجي ليجيتي، لحن ريتشارد شتراوس لقصيدة نيتشه هكذا تكلم زرادشت في جزء فجر الإنسان. صوت العقل الإلكتروني هال، ناعم، خبيث، بارد، مشهد فك رائد الفضاء لشرائح عقل هال، تشوه صوت هال. رائد الفضاء في سفره الزمني. مجموعة من النصائح الكوميدية المدرسية الطفولية توصي بها مدونة قبل مُشاهَدة الفيلم، يجب أن يعود المُشاهِد قبل عرض الفيلم إلي ذاكرته القديمة والمدفونة، ذاكرة طفولته البعيدة، حينما كان جنيناً في بطن أمه، حينما كان مجرد خلية واحدة مكتملة إذا أمكنه، فأفضل من يستطيع مُشاهَدة هذا الفيلم والوصول إلي صلب حقائقه ومعانيه هم الأطفال، لا ننصح بمُشاهَدة الفيلم في أي وضع عاطفي أو شاعري، أو كوسيلة يتخذها طرفان للترفيه والدخول في ممارسة جسدية أو حسية من أي نوع، لا ننصح بإرهاق العين قبل المشاهدة في القراءة، أو مُشاهَدة أي فيلم آخر، ونفضل تخصيص يوم كامل للفيلم، لا ننصح أي مخرج شاب أو عجوز بمحاولة تقديم أي شيء عن الفيلم أو أجوائه في أي من أفلامهم، ولا ننصح بالتعامل معه كفيلم تعليمي لطلاب معاهد السينما، لا ننصح بشرب أي نوع من المخدرات القوية قبل الفيلم، ونخص بالذكر الكوكايين لأنه قد يؤدي إلي مشاكل صحية خطيرة قد تستدعي النقل إلي المستشفي بعد الفيلم، يجب التأكد من جودة الصوت وقوته، يجب التأكد من جودة الصوت، يجب التأكد من جودة الصوت، وقالها ثلاثاً وأشار بإصبع السبابة نحو أذنه، وأخيراً ننصح بعد الفيلم بتناول مشروب مرطب، والابتعاد عن سماع أي نوع من الموسيقي الكلاسيكية لفترة لا تقل عن ثماني ساعات. في واحدة من إيماءات جيل دولوز الساخرة المُنحازة إلي الأدب أكثر من الفلسفة، لما فيها من تصوير استعاري، يتخيل أن عرضاً ما لتاريخ الفلسفة عليه أن يكون قريناً حقيقياً، وأن يضم أقصي تعديل خاص بالقرين، كأنْ يتم الحديث عن هيجل ما مُلتحياً فلسفياً، وماركس ما أجرد فلسفياً، تماماً مثلما تكون الموناليزا مُشوْربة. وواحدة أكثر ألماً يكشف فيها الملابس الداخلية للفلسفة أثناء حديثه عن إشارات عمل بروست البحث عن الزمن الضائع. يكمن خطأ الفلسفة في افتراضها بأننا نتمتع بإرادة للتفكير، برغبة، وبحب طبيعي للحقيقي، كذلك لا تبلغ الفلسفة إلا الحقائق المجردة، التي لا تؤذي أحداً ولا تهزه، الأفكار التي تصوغها الفطنة المحضة لا تتمتع إلا بحقيقة منطقية، حقيقة ممكنة، واختيارها عشوائي، أي مجانية، لأنها تولدت عن الفطنة التي لا تمنحها سوي إمكانية، وليس لقاء أو عنف يضمن صحتها، إذ لا قيمة للأفكار التي تشكلها الفطنة إلا بمغزاها المكشوف، أي التقليدي، فبروست لا يشدد علي موضوع أكثر من تشديده علي ذلك الموضوع، الحقيقة ليست نتاجاً لإرادة سابقة، بل نتيجة لعنف في الفكر، المغازي المكشوفة والتقليدية ليست عميقة أبداً، الشيء الوحيد العميق هو المعني المغلف، الذي تتضمنه إشارة خارجية.