كان يعيش بمفرده. تزوره ابنته في الأسبوع. تطبخ له طعاما يكفيه حتي زيارتها التالية. رفض الذهاب للعيش معها. وجد إلحاحها الدائم علي أن يأتي معها مجرد كلام. لو كانت بالفعل تريده أن ينتقل إلي شقتها لحضر زوجها معها بسيارته، وأصرا علي عدم التحرك من مكانهما إلي أن غادر معهما. لكنها دائما كانت تلح عليه بنبرة توحي ب " تعالي معايا ويحصل اللي يحصل ". كانت هي صاحبة الاقتراح بأن يوارب الشباك المطل علي الشارع ليستطيع أحد القفز وفتح الباب له حينما ينسي المفتاح. اضطر لتنفيذ اقتراحها بعد تكرار كسر شراعة الباب وشرائه زجاج لها في كل مرة. رفض تثبيت قطعة كرتون مكان زجاج الشراعة المكسور. كان يتحجج دائما باحتمال أن يسافر أو ينتقل إلي الإقامة مع ابنته. ماذا ستفعل قطعة كرتون في غيابه؟. منذ أن وارب الشباك صار يحس كلما خرج لشراء شيء أو لزيارة أحد الجيران أو لصرف معاشه بأنه سيعود ليجد الشقة مسروقة. لم ينشغل بتحديد أي الأشياء في شقته يدعو للسرقة. شقة بالدور الأرضي لا أحد فيها وشباكها موارب لا ينقصها سوي أن يقفز داخلها شخص ويسرقها. لم يقتنع جيرانه ولا ابنته بهذا الكلام. طمأنوه بطريقة تجعله يشعر أنهم يستهينون بمحتويات شقته ويرونها لا تستحق السرقة، فازداد قلقه وثقته في إمكانية سرقة الشقة بأكملها دون أن يحس الجيران. وأحيانا كان يعود قبل أن يكمل مشواره ليتأكد من عدم حدوث شيء.ويلمحه من يقفون في البلكونة وهو عائد بسرعة والمفتاح في يده وعينه مصوبة نحو شباكه ولا ينتبه لمن يسلم عليه. صارت كلمة مفتاح هي التي تخطر في بال الكثيرين عندما يرونه سواء كان خارجا من بيته أو عائدا إليه، وقد يتحسس أحدهم جيبه فور أن يراه ليتأكد من وجود المفتاح معه أو ينظر إلي ميدالية مفاتيحه بين كفه. تكرر نسيانه للمفتاح وتكرر نداؤه علي لأتولي مهمة القفز داخل الشقة. كان معتادا علي أن ينادي علي أحد أخوي، ومنذ أن وصلت لأقضي إجازة الصيف معهما أوكل لي أخي الكبير تلك المهمة. وأعطاني عدة الشغل: كرسي بلاستيك أرفعه إلي أعلي وأنا نازل السلم ثم أقف عليه وأدخل يدي بين الضلفتين لأرفع المزلاج وأثب لأجلس علي قاعدة الشباك ثم أقفز داخل الغرفة. في كل مرة كان يناديني فيها كنت أتخيل نفسي إما أحد الأبطال الذين يسرعون لنجدة شخص يستغيث بهم أو لصا يتسلل إلي الشقة في خفة ويقضي علي من يعترضون طريقه بضربات سريعة قاتلة. كنت أتقمص أحد الدورين فور سماعي نداءه. وأنزل السلم وأنا أصيح الصيحات المناسبة لكل دور، لكنها في الحقيقة كانت صيحة واحدة " يا. يا. يااااه " وأنا الوحيد الذي يعرف إن كان قائلها البطل أو المجرم. وحينما أدخل وأفاجأ بكثرة أعدائي كنت أتأخر ثواني في فتح الباب، ويعلو صوته " في حاجة؟ " فأسرع بفتح الباب له وأنا أجهز علي آخر شخص. قال لي إنني علي عكس ابن الجيران الذي كان يستعين به حينما يكون أخوي في الجامعة فقد كان دائما يكسر أو يوقع شيئا كلما قفز داخل الشقة. تخيلت ابن الجيران وهو لا يقضي علي خصومه بسهولة واضطراره للاستعانة بشيء ليزيح عنه من يحاول خنقه أو قتله. خروجه من الشقة كان يعني أن أستعد لأؤدي مهمتي فور عودته. وكنت أشعر بالضيق حينما أجده لم ينس المفتاح ولم ينادِ علي. قال لي إنني أسرع من أخوي اللذين يحتاجان إلي أن يكرر نداءه. ويظل واقفا أمام الشباك في الشارع حتي ينزل أحدهما. وقال إنه سيأتي يوم لن يستطيع فيه دخول شقته التي عاش فيها معظم عمره. رددت عليه أن كثيرين من أبناء الجيران يتمنون لو نادي عليهم ليقفزوا، وفي أسوأ الأحوال يستطيع أن يكسر باب الشقة. ضحك " ياريت الحياة تبقي دايما سهلة " أحسست أنه يقصد معني آخر لم أفهمه وقلت له إنه لا توجد شقة لا يمكن دخولها إلا إذا كانت بلا نوافذ ولا أبواب، فرد علي وقد اشتد ضحكه " ودي الشقة اللي حاسكنها في النهاية " قالها وهو يحدق في عيني كأنني حللت لغزا مستحيلا دون أن أدري. ودفعتني كلماته إلي تخيل نفسي وأنا اقتحم مكانا بلا نوافذ ولا أبواب دون أن أحطم أي جزء من جدرانه. في مرة ناداني. وقفزت بسرعة كالعادة من الشباك وانهمكت في قتل وضرب أعدائي. وكانت ضرباتي يومها أقوي من المعتاد لأعوض الفترة الطويلة التي مرت ولم ينادني فيها. فتحت باب الغرفة المفضي إلي الصالة وفي نفس الوقت كنت أوجه ضربة بقدمي لمن يترصدني خلف الباب وينوي أن يهشم رأسي. نجحت ضربتي لكن هذه المرة سمعت صرخة مازلت أسمعها حتي الآن. في هذا اليوم لم ينس عم محمود المفتاح فقط بل نسي أن ابنته موجودة في الشقة. واستقرت ضربتي بكل قوتها أسفل بطنها وظلت تتأوه وهي مكومة علي الأرض وسبتني أنا واللي جابوني، بينما في الخارج عند باب الشقة كان عم محمود يضحك بعدما ظن أن ابنته صرخت فزعا من وجودي، وظل يردد بصوت عال " أنا نسيت إنك جوه " .