لا أعتقد أن أي قوة في النظام الإقليمي يمكن أن تقبل بوقوع سيناريو يؤدي إلي نشوء (دولة فاشلة جديدة) في جنوب البحر الأحمر.. الوضع الاستراتيجي لا يحتمل علي الإطلاق أن يصل اليمن إلي الحالة التي بلغتها الصومال.. فيكون (مضيق باب المندب).. بكل أهميته الجغرافية والاتصالية والبحرية في الواقع العالمي (بترولياً وتجارياً وأمنياً وعسكرياً) في قبضة الفوضي. وعلي الرغم من أن أحدا لا يمكنه أن يقبل ذلك أو يحتمله، إلا أن مخاطر عديدة تضرب اليمن، تلك التي كانت تعرف قديما بأنها (أرض الجنتين)، وكان وجودها البشري والحضاري يمتد في عصور مضت منذ مئات القرون إلي كل من العراق ومصر وشمال أفريقيا. الوضع حرج للغاية، اليمن عمليا في غرفة العناية المركزة وليس فقط مجرد مريض في حالة صعبة، والمشكلة ليست كما يبدو لأول وهلة وكما تظهر الأخبار المتداولة بشأن حرب الحوثيين في شمال اليمن والممتدة تعمدا إلي جنوب السعودية.. ولكن في مجموعة من الأخطار المتجمعة في وقت واحد.. وتمثل تهديدا استراتيجيا ليس لليمن وحده.. ولكن لكثير من الدول حوله.. ويمكن رصدها فيما يلي وفقا للأهمية في الترتيب: 1 الاحتمال القائم في أن اليمن (52 مليون نسمة أغلبيتهم في الجزء الشمالي) قد يفقد وحدته.. إذا ما انفصل الجنوب.. وتشير التقديرات المختلفة إلي أن الانفصال لن تكون مشكلته الاستراتيجية فقط في حدوثه ولكن في أن تأثير الوضع القبلي قد يؤدي إلي نشوء ثلاث دويلات علي الأقل في هذا الجنوب وما يستتبع ذلك من مشكلات حدودية ووضع مفتت ولا يمكن السيطرة علي نتائجه. 2 الخطر الأمني الاستراتيجي الذي يمثله تنظيم (القاعدة في اليمن والجزيرة العربية).. حيث تراكمت مقدمات مهولة أدت إلي تنظيم إرهابي عقائدي شديد العنف.. تجمعت له عوامل تاريخية مختلفة.. بحيث أصبح يمثل مشكلة حقيقية ليست قيد السيطرة بأي حال.. وبما يفوق طاقة الدولة.. وإلي الحد الذي يدفع بعضا من الدول الغربية إلي إغلاق سفاراتها لبعض الوقت خشية التهديد من عمليات إرهابية مختلفة. 3 الحرب الدائرة في الشمال مع الحوثيين.. الذين يرغبون في تحقيق الانفصال.. وانتقال تأثيرات هذه الحرب وتداعياتها بفعل التدخل الإيراني إلي السعودية (جنوبا).. حيث تدور معارك منذ عدة أشهر أدت إلي تهجير عشرات الألوف من سكان المناطق الجنوبية في السعودية. وتعتمل في اليمن عوامل داخلية وإقليمية متعددة.. وتختلط مشكلات القبلية في قطاعات مختلفة - فالبلد مقوماته في الأصل هي القبائل - مع الأوضاع الجغرافية التي تواجه الجيش في معركته مع الحوثيين في الشمال، مع تدخلات إيران وتحريضاتها وتمويلاتها، بخلاف الضغوط التي تمثلها طبيعة الانتماء المذهبي لكل فئة من السكان الموزعين بين السنة والزيدية، فضلاً عن الخطر المتصاعد لتنظيم القاعدة. ويحلو لبعض المراقبين أن يروا في اليمن وضعاً اقترب من الحالة الباكستانية، أو أنه في الطريق إلي ذلك، وقد يكون الوضع أبعد من هذا التصور، أن القوي الدولية سوف تحاول ألا تسمح بذلك.. وفي هذا يشار إلي المؤتمر الدولي بخصوص اليمن الذي اقترحه براون رئيس وزراء بريطانيا، والذي لم تتضح معالمه، وربما يكون اليمن قد تسرع في الاستجابة إلي الدعوة لهذا المؤتمر.. بدون أن يعرف الأبعاد.. التي قد تؤدي به إلي الحالة الأفغانية وليس فقط الحالة الباكستانية.. ومن ثم فإن القوي الإقليمية العربية سوف تعمل جاهدة علي أن تعين اليمن علي مواجهة احتمالات الخطر الاستراتيجي.. وأن تساعده علي أن يبقي موحداً وقادراً علي التعامل مع التحديات.. غير أنه علي اليمن أولاً أن يعين نفسه. إن عمليات التحول المذهبي نحو الإيمان بولاية الفقيه تنتشر بصورة ما في شمال اليمن، بفعل التأثير الإيراني، لكن الخطر الفارسي الذي يمتد نطاقه في مشرق العالم العربي من العراق إلي لبنان وفلسطين وتهديد الخليج.. يتجسد في اليمن بصورة أكبر مما هو الحال في مناطق أخري.. حيث يوجد تنظيم يعمل بدوره بالوكالة من خلال الحوثيين.. ويناظر الدورين اللذين يلعبهما لصالح إيران كل من حزب الله وحركة حماس.. دون أن نغفل عن التدخل الإيراني العلني والسري في العراق. ولا شك أن إيران تريد أن تضيف إلي مجموعة الأوراق التي ترتهنها ملفاً إضافياً مؤثراً.. فهي إن كانت تلوح بحرب بحرية في الخليج.. وبما في ذلك تهديد الاستقرار الداخلي للدول الخليجية.. فإنها بصدد وضع قلق ومؤثر بحرياً أيضاً في جنوب البحر الأحمر.. ولعل هذا هو أحد أوجه الإصرار المصري المتكرر علي الربط بين أمن الخليج وأمن البحر الأحمر في إطار صياغة القاهرة لاهتماماتها الاستراتيجية المتعلقة بالأمن القومي المصري والعربي. والوضع في اليمن بهذه الصورة دفع إلي واحد من مجالات التحالف والتنسيق الإضافية، بخلاف ملفات متنوعة أخري، بين كل من السعودية ومصر.. وهو حتي ما يناقض تجارب تاريخية سابقة.. شهدت تنافسا سعودياً مصرياً علي التأثير في اليمن (راجع تورط مصر في حرب اليمن في الستينيات حيث كان علي الجانب الآخر قبائل مدعومة من السعودية).. الوضع الآن اختلف تماماً.. إذ لا يوجد سعي للتأثير.. وإنما التنسيق والتعاون من أجل حماية اليمن وحماية مقوم أساسي في المنظومة العربية ومنظومة الأمن الإقليمي. وقد جرت اتصالات متنوعة بين القيادة المصرية والقيادة في اليمن خلال الأسابيع الماضية كما لا شك لاحظ المراقبون.. وقبل فترة قصيرة زار صنعاء كل من وزير الخارجية ورئيس المخابرات.. ومما لا شك فيه أن مصر سوف تعضد اليمن في مواجهة أخطاره والأخطار المحدقة به.. بدءاً من الحد الأدني المتوقع في إطار الاستفادة من خبرة ورؤية القيادة المصرية.. وبالتأكيد فيما هو أبعد من ذلك سياسياً. هذا التوجه المصري جدير بالإشادة والاهتمام والمتابعة.. وهو يعبر عن تلبية مصر لمسئولياتها القومية.. والأهم تعبيره عن قيام الدولة المصرية بمسئولياتها الوطنية في إطار حماية الأمن القومي في مختلف دوائره الجغرافية. [email protected] www.abkamal.net