لم يكن قرار النائب العام بإحالة وقائع جريمة نجع حمادي الأخيرة إلي القضاء، ولن تكون احكام القضاء فيها السطر الأخير، بل يمكن حسابها نهاية لفصل في قصة طويلة دامية، والأسئلة التي طرحت في صفحتها الأولي والتي سطرت قبل نحو اربعة عقود مع احداث الخانكة الطائفية، واحتفظت لنا بها صفحات تقرير وتوصيات لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب وقتها برئاسة د. جمال العطيفي، مازالت اسئلة معلقة بلا إجابة وإن لم يخل الأمر من محاولات لكنها انصبت علي الوقائع المباشرة ربما خشية أن نفجع في واقع مذرٍ وتقيحات في جسد مجتمع سترت تحت طبقات من المراهم وأُخمد أنينها وصداعها بمسكنات شديدة الوطأة، تعددت الأسباب والقرار واحد : الترحيل إلي المجهول . ولم نلتفت الي متغير فرض نفسه علينا وهو طفرة الاتصالات عبر شبكة الإنترنت والتي خلقت عالماً افتراضياً للتواصل يصعب السيطرة عليه ومعه ولد جيل أو أجيال من الشباب استعاض عن سني حياته القليلة بخبرات التواصل، ولأسباب عديدة لم تعد قيود الايديولوجية مسيطرة عليه، ولهذا اختلف علي مفهوم الوطن وحدود الانتماء، وفي غفلة الفهم الصحيح لتلك التغيرات تسلل من يعبث في عقل ووجدان قطاع غير صغير من تلك الأجيال ، علي خلفية التراجع الثقافي في مناقضة لإمكانات المعرفة المتاحة ليقدم لهم رؤية تجعل من الدين وطناً بديلاً ومن المؤسسة الدينية، رسمية وموازية، وكيلاً معتمداً. كان الجمود السياسي وانسداد قنوات الحوار الحقيقي وتكلس المفاهيم ومن ثم الممارسات في الشارع السياسي وراء تناقضات تلك الأجيال ونفورها من المشاركة وهي تلمس وتعيش التناقض الحاد بين الشعارات والأفعال، وترقب في غضب الزواج غير الشرعي بين السلطة والثروة والتنامي الأخطبوطي المتوازي لكل من الفساد والتدين الشكلي، بل وفي الخلفية شيء من التحالف بينهما، فسقوط أحدهما سيستتبعه بالضرورة سقوط ثانيهما. وعندما نتوقف عند الأعمال الإجرامية الأخيرة في مدينة نجع حمادي، نلحظ أن كل الأطراف دفاعاً وإدانة لم تبرح المربع الديني، وهذا يكشف مدي الخلل الذي تملك في الذهنية الجمعية، فلم يلتفت أحد إلي الصدع الذي نال مفهوم الدولة المدنية، فحتي لجنة مجلس الشعب اعتبرت اسقف المدينة ممثلاً للأقباط فقدمت له العزاء ولم تلتفت الي اسر الضحايا فيما ذهبت لأسرة الجندي المسلم الذي قتل بنفس الأحداث، وهو إجراء جاء عفو الخاطر لكنه يكشف عمَّا استقر لدي فصيل من فصائل النخبة السياسية ، نواب البرلمان الموقرين . لعل المتابع يلحظ مسارعة المسئولين الي التأكيد ان ما حدث عمل فردي، بدون خلفيات احتقانية طائفية، فيما ذهبوا الي ربطها قسرياً بحادث فرشوط لتخرج علي أنها جريمة شرف، ليصطدموا بأن المجرم المباشر ثلة من معتادي الإجرام والمسجلين خطر لدي الأمن، ولا يستقيم أن يكون الشرف علي اجندة اهتماماتهم، وكنا ننتظر أن تتعمق تحقيقات الشرطة لتكشف من يقف خلفهم محرضاً والذي أو الذين مازالو طلقاء يمارسون تحريضهم هنا أو هناك، وإن كان ضغط اللحظة وهولها لم يتح لها هذا فظني أن تحقيقات النيابة مطالبة بهذا، وإن لم تفطن لذلك فللقضاء حق وصلاحية اجراء تحقيق مستقل له حصانته وقوته، فلا أظن أن مشاهد مسرحية القضية للمبدع سعد الدين وهبة أو رسالة فيلم الزوجة الثانية رائعة رائد السينما الواقعية المخرج صلاح ابو سيف قابلة للتوقيع علي تلك الوقائع وعلي تناولها الأمني والقضائي، فمازلنا نشهد لهما بالحيدة والنزاهة . علي جانب آخر لا يحق لنا ونحن نجلس الي مكاتبنا أو نتسامر في استرخاء مع اصدقائنا هنا في العاصمة وعلي بعد نحو سبعمائة كيلو متر من المدينة المنكوبة، أن نصدر احكاماً أو نطلق تحليلات منبتة الصلة بما يحكم العلاقات هناك، عصبية وقبلية وسياسية، ودون أن نفسح لتساؤلات الشارع هناك والتي لو وضعت علي مائدة البحث لأمكننا فك ألغاز عديدة، ومن ثم وضع علاجات حقيقية تحول دون تكرارها، وأنا هنا أعيد طرح تلك التساؤلات دون تدخل أو تلوين، ودون تأكيد لخيار دون آخر، يتساءلون عن سر الردود الأولية لقوي ذات ثقل والتي راحت تشير الي تورط رموز برلمانية وشعبية محلية في التحريض والتخطيط ، ثم انقلابهم الي النقيض بتبرئة ساحتهم؟، ويتساءلون عن تحالف الأسقف والهوارة ومحافظ الإقليم السابق في مواجهة احد نواب المدينة، ويشيرون الي اخفاقه في انتخابات البرلمان لدورتين متتاليتين علي خلفية هذا التحالف، ويتساءلون عن الصراع الاقتصادي الدائر بين الطرفين فيما يتعلق بالسياسة الزراعية وتحديداً قصب السكر، ويتساءلون عن كون المتهم الأول أحد اركان الحملات الانتخابية لأحد النواب وهو ما ألمحت اليه جريدة قومية قبل أيام بنشرها صورًا لهما معاً توحي بجو الحميمية والألفة ، ولا تقرأ علي انها صور تقليدية لمواطن مع نائب بالبرلمان، ويتساءلون عن الغياب الأمني المحلي وقت وقوع الجريمة وفي توقيت محتقن ومنطقة مستهدفة، ويتساءلون عن حدة تصريحات اسقف المدينة عقب الحادث واشاراته الي شخوص بعينهم ثم تراجعه المناقض بعدها بأيام، واقراره بأنه كان يدفع اتاوات للمتهم الأول، فهل وقع تحت ضغوط تسعي للتهدئة أم تستهدف أمن وسلامة رعيته أم ماذا؟، والتساؤلات ممتدة. إن الأمر يتطلب التفكير فيما هو أعمق حتي نحاصر المد الاحتقاني هذا فلا ينفجر بعد أيام في قرية أو مدينة أو محافظة اخري، ونعاود السيناريو نفسه، كيف يمكن الخروج من هذا النفق المظلم، وهنا انقل طرحاً لبعض من المفكرين لعله يجد من يفعله ويطرحه لحوار أوسع، بعيداً عن الينبغيات والطرح المطلق الذي لا يتلامس مع الواقع، وكان اتفاقهم علي وجوبية صدور قانون منع التمييز (الديني والعرقي والجغرافي والنوعي) تفعيلاً وترجمة لنص المادة الأولي من الدستور المصري والتي بحسب موقعها المتقدم فيه تعد من النصوص الحاكمة لما بعدها، وهو أمر يتم اسناده الي لجنة قومية قانونية تضم رجال القانون والفقهاء الدستوريين من جميع التوجهات الحزبية والسياسية، وكانت هناك قناعة لدي المتحاورين بأن قانون منع التمييز هذا يحتاج الي دوائر قضائية خاصة في اطار القانون المدني الطبيعي تكون احكامها نافذة وتخضع مباشرة في درجاتها المختلفة وفيما قبلها في مراحل التحريات والإحالة لمجلس قضائي أعلي يتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ضماناً للحيدة والشفافية والفاعلية. لعل هذه الخطوة تفتح الطريق أمام تأكيد مدنية الدولة، ففي ضوء هذا التشريع تتم مراجعة التشريعات القائمة (قوانين ، لوائح، تعليمات، أعراف)، لتنقيتها مما يخالف نصوصه، وبه يمكن لكل من يمارس ضده تمييزاً بسبب معتقده الديني أو لونه أو انتمائه الجغرافي أو جنسه أو نوعه (ذكرًا أو انثي) أو موقعه الاجتماعي أن يطالب ويحصل علي حقوقه وفقاً لقاعدة المساواة. تحديداً من علي صفحات روز اليوسف أتساءل هل يمكن لمؤسسة روز اليوسف ان تتبني الدعوة لمؤتمر يضم أطياف المجتمع المختلفة للحوار حول هذا المقترح وبلورته في وثيقة تقدم للبرلمان لتشريعه ؟.