كمصريين لم نعد في حاجة إلي من يشحذ قريحته ليثبت لنا أنّنا جميعا أقباط (مسلمين ومسيحيين ) ننتمي ونصير إلي نفس قطعة الأرض من كوكبنا التي تسمّي _إيجبت . وجودنا الأصلي هو مصر تشكّل ملامحنا ولون بشرتنا الحنطي ومزاجنا الطيب وعاداتنا وبطاقات هويتنا وجوازات سفرنا،ولاتوجد بيننا علي مسار تاريخنا الطويل جماعات قومية وإثنية ومذهبية متناحرة. وأقسي ما عانيناه هو عادات الثأر في الصعيد الآخذة في الانقراض. ما يجب أن يلهينا هو كيف نجحت هوسة طارئة من التمظهر الديني أن تضعف هذه الحقيقة التي أكّدت صدقها وأثبتت مناعتّها وتجاوزت كلّ الاختراقات الاستعمارية بأهدافها المعلنة والمستترة ؟ والمخجل أن نمضي عشرات السنين ،نجمع الأدلّة،ونتذكّر الأحداث التاريخية والأحوال العادية علي أنّ مصر هي بناية أبنائها مسلمين ومسيحيين، شيّدتها معارك طويلة خاضوها جنبا إلي جنب واختلط فيها العرق والدم دفاعا عن الحرّية والاستقلال والوحدة والبناء والتنمية، أهي إذن قلّة حيلة، طريقتنا التي لا نجد غيرها ؟جاهزة علي الرفّ لالتقاطها، لنسكت أنين فاجعة ا لعيد التي قتل فيها ستة مسيحيين ومسلم واحد وأصيب ثمانية آخرون في إطلاق نار عليهم أثناء خروجهم من قداس عيد الميلاد بمحافظة قنا. ألم تستنفدوا رصيدكم بعد علي الحوادث السابقة؟وماذا تدّخرون للمستقبل؟ غير بثّ الأشواق الباردة في لجان الوحدة الوطنية، واشتعال القنوات وتسويد الصفحات بالطنطنة حول الفتنة الطائفية !أيام وتلملم الضحايا أحزانها وتكون الأعمال الساذجة في تضليل تضاريس الفكر تؤتي ثمارها: نتبادل التعازي أو التهاني ،نوري أن الشيخ والقسّيس يتعانقان وأنّ الهلال والصليب يحتضنان ! لكن هل قضينا علي التعصّب وتجاوزاته ؟ حتّي الأمس كان المرشد الثامن لجماعة الإخوان يتولّي منصبه ويصرّح بأن الجماعة تنتهج الإصلاح التدريجي والسلمي وتنبذ العنف، لن أدخل في الموضوع الآن، لكنّني سألفت النظر إلي مناخ التعصّب الذي سألتكم عنه واستنتجوا معي: هل هبط من السماء أم هو من صنع بشر؟ كان الاتّجاه الديني المتطرّف بإيمانه المتزمّت بأنّ مصر "مجتمع جاهلي كافر" قد سبق الجميع في ترسيخ ثقافته وإفشائها. ونجح بالفعل _ ولو مؤقّتا_في تغيير حياة الكثيرين في عقولهم وشكلهم وملابسهم، فأشاع تربية الذقون وارتداء الجلاليب القصيرة فوق السراويل الطويلة ومضغ السواك بين الرجال، والحجاب والنقاب بين النساء، وفرش "الحصر"في الطريق العام للصلاة والأذان لها بمكبّرات الصوت في كلّ ركن وزقاق وحارة وشارع... القصّة طويلة، وما يهمّنا منها هو أنّ مجتمعا مغلقا قد أخذ في الظهور، وانتقلت سلطة تحقيق النصوص الدينية إلي أيدي هؤلاء المتزمتّين.ولم يكن مصادفة أن يكثر ويتكرّر في ظلّ هذا المناخ الاحتكاك بالمصريين المسيحيين وارتفاع حدّة أحداث الفتنة الطائفية. وذاع مصطلح "الأقلّية القبطية" في الداخل والخارج،وكثر اللغط حولهم بأنّهم أهل ذمّة واقتحم الحوار بفظاظة من يتكلّم عن دفع الجزية. وبدأ يتهدّد المسيحيين الشعور بالاختناق والإحساس بمن يحاول فكّ عقد اندماجهم في النسيج المصري. اعترض علي مصطلح الوحدة الوطنية كردّ فعل لردّة سلفية جاهلة وغاشمة وغالبا طارئة ومؤقّتة، نتعامل علي أساسه مع إخوة لنا علي أنّهم "أقلية"اجتماعية مختلفة عن بقية مواطنيها.وبدلا من مواجهة هذا العسف..بدلا من ان نواجه هذا الجو المحتقن بالتعصّب، والذي من المؤكّد ان يستثير في مواجهته تعصّبا مقابلا، نشطنا في ممارسة نفاق اجتماعي! وتكلفّنا بشدّة ومبالغة تبادل مشاعر المودّة والتهنئة بالأعياد والمناسبات وعلّقنا اللافتات بعرض الشوارع ومددنا موائد الإفطار الرمضاني. وتجمّع لدي شخصيا،عدد كبير من"ميدالية " يوزّعها البابا عقب حفل كلَّ إفطار يقيمه،مسجّل عليها تاريخ المناسبة والهلال والصليب يتصافحان.وجاءت نتيجة هذا الجيشان بالمشاعر، أن قام يوما_ أحمق فجّ وجاهل وقليل الذوق_ بوضع يديه علي صدغيه ورفع أذان المغرب في سرادق الكنيسة رغم ما أعلنته مقدّما من توفير مكان لأداء الصلاة. لم تكن تنقصنا النوايا الطيبة ولا ان نذكّر بعضنا بعضا بالمعاني النبيلة في المسيحية والإسلام،إنّما أن نعرف كيف نجعل من المستحيل أو من الصعب أن تظلّ الفتنة نائمة لتهاجمنا في أي فرصة سانحة . والسؤال المحوري الذي يشغل غالبيتنا هو: ماذا ينتظرنا ؟ في إسار الحالة الدينية التي كثفّها علي عقولنا ووجودنا الإسلام السياسي. لاتوجد مشكلة وحدة وطنية في مصر إنما توجد معضلة أقلية منظمّة تتستّر بالإسلام،تثير الانغلاق والتعصّب وتؤلّب جماهير تعدّ في الأساس مسلمة ضدّ غالبية المسلمين والأديان الأخري.المشكلة هي مشكلة المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين، والتوجّس والريبة إزاء الدعوات المتكرّرة لبحث مشاكل المسيحيين في مصر في منتديات خارجية إنّما هو قلق من لايعيشون الواقع لسنين طويلة .ولا أعتقد أنّهم كاذبون أو مراؤون كلّ الذين ظهروا علي قمّة الأحداث من المثقّفين وأعضاء المجلس الملّي ورجال الدين المسيحي ،ينزّهون المصريين المسيحيين عن أن تكون في تاريخهم سقطة استثمار مخزون معاناة مصر أو ركوب حماقة جماهير مضلّلة لاتعرف أين توجّه سخطها. والتفتيش اليوم بالذات عن تصريحات بناء الكنائس وإقامتها وتحديد نسب للترقية واعتلاء المناصب والتمثيل في المجالس النيابية وغيرها إنّما يندرج في الدعوة العامّة لحرّية وحقوق المصريين جميعا.